تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عقـد الذّمـة في الشريعـة الإسـلاميـة(1)

مصدر الصورة
SNS

 

10/9/2014

 كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن حقوق الأقليات في المشرق العربي والمشروع الغربي لتفريغ المنطقة من تنوعها الديني والأثني، وتدمير حالة التعايش والانسجام في المجتمع العربي والسوري خاصة، وذلك في معرض التصرفات البربرية التي تقوم بها الجماعات الإرهابية في سورية والعراق ولبنان بذريعة تطبيق الشريعة الإسلامية. ولكن السؤال البديهي والمنطقي؛ ما هو موقف الدين الإسلامي حقيقة من معتقدِي هذه الديانات ليس لجهة البحث في العقيدة والإيمان، وإنما لجهة المعاملة والسلوك في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟

في الحقيقة، من أجل الحصول على إجابة دقيقة وعلمية لابد من العودة بالذاكرة إلى العصر الذي عرِف بداية تطبيق مبادئ الإسلام كدين جديد تمحور حول مقولة الايمان بالإله الواحد والخوف من يوم الحساب من جهة، وحول مبدأ تساوي البشر ومسؤولياتهم أمام الله يوم الحساب الأخير. وهذه الأفكار والمبادئ استجلبت للنبي محمد (ص) العداء من مشركي مكة. ومن هذا المنطلق شعر بأنه قريب من اليهود والنصارى وبات الايمان بكتاب منزل هو الفاصل الذي يقسم العالم إلى فئتين مختلفتين هما الكافرون أو المشركون، والموحدون، وكان هذا قبل الهجرة.

أما بعد الهجرة، بات الإسلام كدين كامل وتام ورسالة نهائية ـ أنزلت لتكمل الرسالات الأولى وتصحح أخطاء معتنقيها وتسد الثغرات ـ يفترض أن تكون له مكانة أعلى دينياً وسياسياً, ولأصحاب الديانات السماوية وضعاً مميزاً ظل بحاجة إلى تفسير أكثر تفصيلاً. وسوف لا تتضح أسسه وتفاصيله إلا بعد سلسلة من الصدامات القاسية الشديدة خصوصاً مع القبائل اليهودية. هذه الصدامات انتهت بإبرام معاهدات محلية. وانطلاقاً من هذه الحال ومن أجل فهم طبيعة العلاقة التي أقيمت بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ونصارى (أهل الذمة) وفي سبيل توضيح عبارة (أهل الذمة) والمفهوم الصحيح لأوضاعهم القانونية، لابد من الوقوف على الأسباب والاعتبارات والمراحل  التي ساهمت في عهد رسول الله (ص) في نشوء هذا المصطلح وما ترتب عليه من آثار واستمرارها في تاريخ الدولة الإسلامية من بعده  بكل تفاعلاتها وتداخلها حتى إلغائها في عهد الاحتلال العثماني بصورة نهائية، وهي على النحو التالي: 

أولاًـ إقامة نظام أهل الذمة في عهد الرسول (ص):

بعد ترك النبي الكريم مكة والهجرة إلى المدينة المنورة، سعى إلى تأمين انتصار الدين الجديد وتنظيم كل مناحي الحياة فيها، وجمع مختلف الفئات التي كانت تعيش هناك؛ فعقد مع اليهود والنصارى الذين تكاثر عددهم في المدينة معاهدة علنية يدعمها ويشد أزرها نظام المدينة والتجربة التوحيدية التي قربت محمد (ص) من النصارى واليهود في مواجهة المشركين. فكان قانون  ودستور المدينة أن ((لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم إلا من ظلم وأثم))، وأن المؤمنين من يثرب ومن قريش ومن انضم إليهم وقاتل معهم يؤلفون أمة واحدة، وأن اليهود يؤلفون أمة واحدة مع المؤمنين، وإن (لمن تبعنا من اليهود) الحق في تلقي العون من المسلمين والمساعدة طالما لم يعملوا ضدهم أو يقدموا العون لعدوهم.

ولكن ما سمي دستور المدينة اصطدم بتيارات معادية للإسلام من اليهود حيث تراجع التضامن الناشئ عن مبدأ التوحيد ليحل محله عداء شديد بين الرسول ويهود المدينة، رغم أنه بعد سقوط واحة خيبر في يد المسلمين، أعاد رسول الله جميع المعابد اليهودية إلى أصحابها ولم يصرّ على تحولهم إلى الإسلام. وجرت محاولة جديدة لإقامة إدارة موحدة ولكن دون جدوى. وفي الفترة التي قضاها النبي (ص) في المدينة أقام أسس الدولة الإسلامية وشرع بالتمييز بين أتباعه وأتباع الديانات الأخرى (التقسيم الديني) من جهة، وبين سكان البلاد التي يحكمها المسلمون (دار الإسلام) وتلك التي يحكمها أعداء المسلمين (دار الحرب) (التقسيم المكاني)، من جهة أخرى. إلى ذلك، فإن غير المسلمين كانوا ينقسمون بدورهم إلى فئات مختلفة، ولكن طائفة الموحدين منهم أي أهل الكتاب أو أهل الذمة الذين يعيشون في ديار الإسلام، كانوا يستطيعون الاحتفاظ بأديانهم السماوية ويتمتعون بحماية المسلمين شرط دفع الجزية والخضوع للسلطات الإسلامية.

وهكذا ظهرت أسس عقد الذمة وأقيمت في عهد الرسول الأعظم مع النصارى واليهود، وأشهرها عهد نجران، إضافة إلى الكتب التي وجهها إلى هؤلاء والتي جسدت الحال القانونية لنظام أهل الكتاب أو أهل الذمة وحددت المعنى الحقيقي لتعبير الذمة في القانون الإسلامي، والتي تعني فيها كلمة ذمة العهد أو العقد أو الحماية. أما عقد الذمة، فهو عقد أبدي دائم يُبرم دون تحديد زمني لمفعوله، وعند موت الموقعين تنتقل موجبات العقد إلى الأبناء. وهذا العقد ليس معاهدة بالمعنى الصحيح ولكنه رابطة بين دولة من جهة، ورؤساء قاعدة شعبية من جهة أخرى. وهذه الرابطة تنشئ واجبات ليس فقط تجاه الدولة الإسلامية ولكن تجاه كل مسلم على حدة وكل كتابي. ومن هنا يتضح أن لها مفعول القانون لأنه عندما يخالفها الذمي يتحمل وحده نتيجة المخالفة وليس طائفته كلها.

ثانياً- نظام أهل الذمة والتحول الكبير:

بعد عهد الرسول (ص) لعبت الاعتبارات الاقتصادية والمالية دوراً هاماً لجهة أوضاع النصارى واليهود، ودفع بنظام الذمة في اتجاه جديد مختلف متأثراً بالظروف الاقتصادية والمالية الجديدة. فقد كانت هذه الاعتبارات أشد تأثيراً من الاعتبارات السياسية؛ فالمسلمون في بداية نشوء الإمبراطورية الإسلامية كانوا أقلية بالنسبة إلى شعوب بلاد الفتح، وهذه الحال فرضت عليهم أن يتركوا بين أيدي هذه الشعوب أكثر أعمال القطاع الإداري والزراعي والصناعي والتجاري، وجلهم من أهل الكتاب، وبالتالي هم القوة المنتجة. وقد استمر هذا الوضع لعدة قرون بشكل جعل قوة الذمي الإنتاجية تبدو ضرورة معيشية للمسلمين وأساسية لخزينتهم (بيت المال) وإداراتهم الحكومية.

فالضرائب التي كان يدفعها أهل الذمة أصبحت بعد الفتح ضرورة حيوية لبيت المال، وصار كل نقص يصيب مجموع هذه الضرائب خطراً تهدد نتائجه استمرارية السلطة وقوة الجيش في نظر الحكام. من هنا كان أي نقص في عدد أهل الذمة ـ سواء تم ذلك بسبب الهجرة أو التحول الى الإسلام عن طريق الاكراه ـ يؤلف بالنسبة لخزينة الدولة كارثة مالية تهدد الدولة بإفلاس لا يمكن تلافيه. لذلك كان التأكيد على حرية المعتقد وحمايته من قبل الحكام هو استجابة لحاجات الدولة والخزينة علاوة على أنه إلزام وضمانة قرآنية وهذه الحرية سمحت للبعض من النصارى الى تجاوز الحدود التي أقامها الرسول (ص)؛ فقد كان الشاعر الأخطل يحضر أمام الخليفة الأموي وهو في حالة سكر شديد.  

وهذه الاعتبارات المالية هي التي دفعت الحكام إلى اتخاذ إجراءات تهدف إلى ابعاد كل طريقة يمكن اللجوء إليها للتخلص من الضريبة. فقد فرضوا ضريبة الجزية على الذمي بعد اعتناقه الإسلام، وفي سبيل الحرص على مصادر الضريبة كانت أملاك الذمي بعد اعتناقه الإسلام تعود إلى طائفته وتبقى في نطاق ملكيتها. وفي رأي أقره الخليفة عمر بن الخطاب (ر) في بداية خلافته أن المتحول للإسلام من أهل الذمة يفقد أملاكه العقارية حيث تعود ملكيتها بكاملها الى أبناء طائفته السابقة على الإسلام. وهذا الأمر يبدو في مصلحة بيت المال إذ يستمر دفع الضريبة عن هذه الأملاك. وقد عمد الخليفة عمر بن الخطاب إلى إقرار مبدأ فرض ضريبة الخراج على الأرض المفتوحة وتركها في أيدي أصحابها السابقين خلافاً لنظرية الغنيمة المطبقة في السابق.

وهكذا استمر مالكو الأرض المفتوحة في التصرف بأرضهم وممارسة حقوقهم القديمة عليها. وقد أجمع الفقهاء على أن الدافع إلى اتخاذ هذه التدابير والنظم كان لصالح المسلمين عموماً. وهكذا استمرت إنتاجية الذمي في كونها مصدر ازدهار للخزينة والمجتمع. ولما كان كل تحصيل ناجح للضريبة لا بد من أن يستند إلى إدارة قادرة ومنتجة، كانت السلطات تعتمد على الهيكليات الإدارية القائمة ومؤسساتها واكتفاء الحكام بلقب الأمير. وهذه الإدارات كانت تضم عددأً كبيراً من النصارى واليهود والذين كانوا يشغلون أحياناً مراكز هامة جداً وعالية فيها. وهذا دليل على مشاركتهم لحد ما في الحياة السياسية.

ولقد أسهب المؤرخون القدماء والمعاصرون في الحديث عن الخدمات الكبرى التي كانوا يقدمونها في القطاع العام أو القطاع الاقتصادي أو الاجتماعي. وهذه الإنتاجية للذمي أصبحت بالنسبة للمجتمع الإسلامي حاجة يصعب الاستغناء عنها. فهم أهل الاختصاص في المال وأمناء الملوك والأطباء والعطارين والكتاب. وانفرد اليهود بأعمال الصاغة والصرافة والدباغة في سورية.

لكن هذه الاعتبارات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والتي استمرت إلى عدة عهود، تعرضت في العهد العثماني إلى تغيير جذري عنه في العصور السابقة. ويتأتى ذلك من أنه في هذا العصر تم إلغاء عقد الذمة الذي كان يؤلف حتى ذلك التاريخ الدعامة الشرعية لهذه الأوضاع. فمنذ العهد العثماني أخذت عناصر العقد المذكور تفقد الكثير من فعاليتها القانونية ومن مصداقيتها التنفيذية تحت تأثير الأحداث السياسية الكبرى. فقد بدأ التضاؤل مع بداية توقيع معاهدات الحماية أو الإذعان التي كانت توقعها السلطنة العثمانية مع الدول الأوربية بذريعة حماية رعاياها وصولاً إلى الإلغاء التام، والتي حملت اسم قوانين الإصلاح التي وضعت حداً نهائياً وإلغاء تام لعقد الذمة.

وبنص صريح سُمي قانون خطي همايون الذي صدر عام 1856 للميلاد. وبالإضافة إلى إلغاء عقد الذمة وسحبه من الحياة السياسية العامة، فقد تم إلغاء مفعول بعض القوانين الشرعية التي اعتبر القيمون على التشريع يومها أنها تحدّ من الحرية العامة للنصارى واليهود، وضمنها بعض أحكام الشرع الإسلامي. ورغم أهمية النصوص الواردة فيها وصراحتها, فقد أدت الضغوط الأوربية على العثمانيين إلى اقرار مبدأ التساوي في دفع الضريبة بين جميع الرعايا ودون تمييز طبقي أو ديني وإلى إلغاء فرض الجزية، وإلغاء مبدأ إبعاد أهل الذمة عن تأدية الخدمة العسكرية.

وهكذا فقدَ النظام القانوني لأهل الذمة كل قيمة له عند إلغاء عقد الذمة الذي كان يؤلف الأساس القانوني لهذا النظام، وبذلك تغيرت أوضاع النصارى واليهود القانونية بشكل جذري. يضاف إلى هذا الإلغاء، إلغاء آخر تناول بعض الأحكام الشرعية التي كانت تحدّ بشكل أو بآخر من حقوق وحريات أهل الذمة بنظر الغربيين. ومع هذين الإلغاءين أقتُلعت أوضاع أهل الذمة من جذورها الإسلامية وبدا واضحاً أن دراسة هذه الأوضاع في العصر العثماني لا يمكن أن تقدم وصفاً صحيحاً لموقف الإسلام من هذا الموضوع.

وحتى يستوفي الموضوع حقه، سنتطرق في الجزء الثاني من هذا المقال إلى الحقوق والحريات الأساسية والاقتصادية في الفقه القانوني الإسلامي في العصور السابقة على هذا العهد. فقد برع الأتراك في تطويع تفسير الآيات القرآنية لدرجة قد تصل إلى إلغاء بعض أحكامها، حيث كان مفتي إسطنبول الأكبر المسمى شيخ الإسلام يقوم بمهمة تفسير القرآن الكريم. وقد حصل أكثر السلاطين خلال ولايتهم على أحكام تتناسب مع توجهاتهم وأعمالهم السياسية، حتى غير الشرعية منها. وقد تمكن العثمانيون من إبرام معاهدات أو اتخاذ إجراءات مخالفة للشريعة الإسلامية عن طريق الحصول على تفسيرات غريبة أحياناً من أجل التوفيق بين أحكام الشرع الإسلامي من حيث المظهر ومطالب الدول الغربية من حيث الواقع.. وما أشبه اليوم بالأمس.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.