تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

محطة أخبار سورية والرواية.. مرة أخرى!

محطة أخبار سورية 

 

 

حنا مينه

قال أبو الطيب المتنبي يوماً: «أنا وأبو تمام حكيمان.. والشاعر البحتري!»، وهذا الاعتراف، من أضخم وأمجد الشعراء العرب، لا ينفي أنه كان أشعر أهل زمانه،.

 

وحتى أهل زماننا نحن أيضاً، إنما فيه اعتراف أن شعره تخالطه الحكمة، وأن الأمر ليس كذلك مع البحتري، الذي يأتي شعره خالصاً لوجه الشعر وحده، في أغراضه المختلفة. ‏

 

لقد امتلك المتنبي الجرأة ليعترف بالحقيقة الموضوعية، بينما يكابر، بعض الشعراء، أو بعض الغيورين على الشعر، في أنه كجنس أدبي، قد تراجع قليلاً، وتقدمت الرواية قليلاً، ليس عندنا وحدنا، بل في العالم كله أيضاً، والاعتراف بهذه الحقيقة الموضوعية، قد صار عاماً اليوم، ولست وحدي من يقول أن الرواية أصبحت، في العقد الأخير من القرن العشرين، ديوان العرب، بل إن النقاد العرب الكبار، يقولون هذا القول، وفي مقدمتهم الناقد العربي الكبير جابر عصفور. ‏

 

الأمر، إلى هذا الحد، واضح ومفهوم، إلا أن بعض الراغبين في تعكير ماء الحقيقة، يقومون، من حين لآخر، بهجوم معاكس، متسائلين، بغير عفوية، هل انتهى عصر الرواية؟ وهل بدأ من جديد عصر الشعر؟ وفي الجواب أقول عصر الشعر لم ينته حتى يبدأ من جديد، ففي هذا السؤال الملغوم افتئات على الواقع، لأن الشعر باق ما بقيت الحياة، هذه التي عرفت، أول ما عرفت، الشعر، في الأناشيد الابتهالية لنمو الزرع، إلا أن بقاء الشعر، لا يعني، بالضرورة، انتهاء عصر الرواية! ‏

 

ففي ندوة حول الرواية عقدت منذ قريب في دمشق، طرح علي سؤال عريض، استفزازي، حاولت جهدي الإعراض عنه فما استطعت.. هذا السؤال العريض هو: هل انتهى عصر الرواية؟ فكان جوابي أنه سؤال عريض فعلاً، لكنه، من الداخل، يبدو ملفوفاً جداً، بما افترض من انتهاء عصر الرواية، وكأنه يجيب على نفسه بنفسه قائلاً: نعم! انتهى عصر الرواية! فلماذا وضع الأمر على مشرحة، وليس ثمة مستشفى أوجراح؟ وهل السؤال الاستفزازي يأتي، دائماً، بجواب استفزازي كما أن السؤال الجيد يأتي بجواب جيد؟ بالنسبة لي، كما يعرف الذين يقرؤونني، أبدو عصياً إلى حد ما، على الاستفزاز، فكيف الأمر وهذا السؤال حول انتهاء عصر الرواية ليس بالجديد!؟ ‏

 

وإذا كان القراء يذكرون أنني أول من أطلق مقولة «الرواية ديوان العرب» في القرن المقبل، في العام 1982، حسبما يقول الناقد اللبناني محمد دكروب، وبعد ذلك أخذ الآخرون هذه المقولة عني، وتبنوها، ونشروها مشكورين، فإن من البدهي، أن يكون السؤال الموجه إلي: «هل انتهى موقفك، أم إنك لا تزال مصراً على أن الرواية العربية ستكون ديوان العرب؟» وفي هذه الحال أجيب: أن الأيام أثبتت صحة المقولة ليس في الوطن العربي وحده، وإنما في العالم كله، وفي حدود رأيي، المبني على الواقع والمعطيات، أن الرواية هي، منذ العقد الأخير من القرن العشرين «ديوان العرب» فعلاً، ومع كل تقديري للشعر، وشغفي به فإن الموضوعية تفرض نفسها، ولا تتعامل مع الأماني الخلبية، وهذه الموضوعية تثبت أن الرواية تسيدت في الوقت الحاضر، عندنا وعند غيرنا، وأن الشعر تراجع، عندنا وعند غيرنا، ومعه القصة القصيرة وكل الأجناس الأدبية الأخرى، باستثناء البحث الفكري، النظري، الذي له مقام الرواية نفسه. ‏

 

من الطريف، في هذا السياق، أن أحد الكتاب وجه إلي اللوم، في مجلة مصرية أظنها «المصور» بسبب من أن أغلب الكتاب تحولوا إلى كتابة الرواية، وحتى بعض الشعراء الكبار، وأن المسؤول عن ذلك هو أنا، لذلك أستحق العقاب، وكان جوابي، مع الابتسام، هو التالي: «درب الرواية يتسع لكل الروائيين، وهذا الكم الكبير الآن، سيكون منه النوع الحسن مستقبلاً، وهذا، في ذاته، جيد جداً! ‏

 

لماذا يريد بعضهم أن يضيق الدروب أمام الأجناس الأدبية والفنية؟ اليابسة تتسع، والماء يتسع، ومن يرغب في تعلم السباحة فأهلاً ومرحباً به، مع ملاحظة مهمة، ضرورية، هي أن الشعر، لكونه ديوان العرب حقيقة، فإن الرواية، توضيحاً، هي «ديوان العرب» مجازاً، وهذا المجاز اقتضاه التشبيه، بسبب سعة الانتشار، لا أكثر ولا أقل. ‏

 

لكن صاحب السؤال، إياه التف علي من ناحية أخرى، بقصد إحراجي، فقال: «وما تفسيرك لتراجع الإقبال على مبيعات الرواية إذاً!؟ واضعاً إياي، برغمي، في موقف المساءلة عن كل شؤون الرواية: كتابة وطباعة ونشراً ومبيعاً، وأشهد أن هذا الموقف أصبح يضيرني جداً، فشأني، كما أرغب في تحديده، أن أكتب الرواية، بعد أن كرست حياتي لكتابتها، أما التنظير لها، نقداً، أو شرحاً، أو دفاعاً، أو إغضاءً، فإنه ليس من اختصاصي، وإذا كان السائل الكريم، يريد بسؤاله الثاني، أن يؤكد صحة سؤاله الأول، فإنني أجيبه، وللمرة الأخيرة: ليس السبب، في تراجع الإقبال على شراء الرواية المفترض، كثرة الروائيين طبعاً، فالرواية الجيدة، كما الشعر الجيد، و(المرحوم نزار قباني نموذج) يؤكد حضوره، كما تؤكد الرواية حضورها، ولا تزال الروايات الجيدة، برغم كل ما قيل حولها من حسن وسيئ، تلقى إقبالاً جيداً والشاهد على ذلك روايات عربية وغير عربية، لاقت، في العامين الأخيرين، إقبالاً جماهيرياً واسعاً، أما بالنسبة للروائيين المكرسين، حسب تعبير دور النشر، فإن رواياتهم تلقى حفاوة واهتماماً لائقين، ولا موجب لذكر الأسماء. ‏

 

لماذا أقول هذا؟ وما أهميته في الجواب على السؤال، حول تراجع مبيعات الرواية وهل حققت بصفتي روائياً، وبعد ثلاثين رواية لي نشرتها «دار الآداب» اللبنانية، ما يفي بالحاجة إلى عيش الكفاف، في الجواب أقول: تقريباً! ولا أزيد، ولا أقارن أي أديب، أو أي فنان، في البلاد العربية كلها، بأي أديب أو فنان في الغرب، فهناك لو نجح كتاب لكاتب، لباع ملايين النسخ، وكان العائد كافياً ليعيش هذا الكاتب الغربي عيش الترف! ‏

 

ديوان الشعر الجيد يتقدم، ولأنه يبيع، لا لشيء آخر، يتقدم، وهذا شأن الرواية أيضاً، إلا أن الرواج الكبير، في الحالين، نسبياً يظل، ذلك أن هناك قيوداً سياسية مفروضة على الإبداع العربي، وفوقها قيود تسويق، من جمركية ونقدية، وقيود نقل، ما بين مغرب ومشرق عربيين، وكل هذا لا بد من أخذه في الحسبان. ‏

 

احسب، بعد هذا كله، أن الأشياء صارت في الضوء، ويكفي كلاماً حول الأجناس الأدبية أو الفنية، فالمهم ليس الكلام عليها، بل إنتاجها، وبشكل رائع، ذي سوية فنية عالية، وحين يكون لنا مثل هذا الإبداع، يكون لنا حضور ثقافي في العالم، كما للعالم حضور ثقافي عندنا وعند غيرنا! ‏

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.