تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مقاهي دمشق بين التراث والعولمة

محطة اخبار سورية

لطالما كانت مقاهي المثقفين في دمشق أشبه بمنارات فكرية تضم مجموعات الكتاب والسياسيين، تحتفي بالنقاشات والحوارات العميقة التي غير بعضها معالم الخريطة الثقافية السورية فمازال الدمشقيون يتذكرون الطاولة الصغيرة التي اعتاد الجلوس عليها مجموعة من الشباب،وانطلق منها المؤتمر التأسيسي لحزب جديد، المقاهي التي كانت تشتعل في فترة المد القومي والحراك السياسي بعد الاستقلال في نقاشات حامية الوطيس عن مستقبل الأمة ووحدة البلاد والحقوق المدنية.. انتهى معظمها إلى زوال.. بينما تستقبل اليوم ما تبقى من المقاهي القديمة زبائن مختلفين عن الأمس تجار أقمشة وطلاباً في الجامعات صحفيين فنانين تشكيلين، عائلات وافدة من المحافظات وشلل (لعيبة الورق) من شركات الإستيراد والتصدير، يقصدون المقهى الشعبي القديم على سبيل السياحة الداخلية ربما..

المقهى في الماضي ‏

يتحدث (نعمان أفندي قساطلي) في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) عن المقاهي التي كانت موجودة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فيقول: كانت هناك ما ينوف عن مئة وعشرة مقاه بين كبيرة وصغيرة وهي منتشرة في أنحاء المدينة ومن أشهرها قهوة السكرية في باب الجابية، والحماقين بالقرب منها ومقاهي الدرويشية كلها في الدرويشية، العصرونية وهي متسعة كبيرة موقعها برأس العصرونية، الجنينة بسوق الخيل، وقهوة الرطل بباب توما وقهوة باب السلام وكان ثمن فنجان القهوة بها بغير سكر خمس بارات فيقصدها الناس لأجل التسلية والإجتماع بعضهم ببعض.

وكانت هناك أنواع من المقاهي يسمونها كازينوهات وهي في سوق الخيل والمرجة وفي الصوفانية خارج باب توما وثمن فنجان القهوة عشرون بارة فيها، فيقدر الغريب من أي رتبة كان أن يصادف شيئاً من أسباب الراحة وإذا قصد الاختلاط بالناس لطفاً ودعة بمن يحادثهم وهذا من دلائل إجماع الأهالي على محبة الغرباء. ‏

ثم إن بعض المقاهي تجددت في المرجة ولها أهمية عظمى لأن جماعة الانكشارية كانوا يجتمعون بها ويصورون عددهم الحربية فوق الوجاق وكانوا يعتبرون تلك الصور راية. مع بداية القرن العشرين امتدت المقاهي إلى خارج السور تحديداً على ضفاف نهر بردى في الربوة والهامة عين الفيجة وغيرها.. بينما كانت الأشهر في قلب العاصمة وإذا كان مقهى الرشيد هو المكان الذي أعلن فيه تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي 1947، في جمع من الناس يزيد عن مئتي شخص من المثقفين والمهتمين، فمقهى (الطاحونة الحمراء) على سبيل المثال هو المكان المخصص للصحفيين السياسيين والنواب .. ويذكر أنه في شارع بور سعيد وحده ثلاثة مقاه رئيسية (دمشق، البرازيل، الهافانا) يلتقي بها المثقفون،أساتذة الجامعة، الأدباء ومدرسو الثانويات من أمثال كامل عياد.. صلاح المحايري زكي الأرسوزي نزار قباني وشوقي بغدادي وغيرهم. ‏

مقهى الروضة ‏

أما مقهى الروضة كان مقهى نواب البرلمان المجاور ورجال السياسة وهو من المقاهي القليلة التي بقيت إلى يومنا هذا مع تغير جذري بالفئات الاجتماعية التي باتت تقصده اليوم بسبب موقعه الاستراتيجي الحيوي في السوق والمكاتب التجارية والبنوك الخاصة في تقاطع شارع العابد مع 29 أيار، يجتمع معظمهم في الظهيرة لكن السمة الغالبة هي وجود الكتاب والروائيين والصحفيين غالباً في هذا الوقت تحديداً في القسم الشمالي من المقهى، وتستمر الجلسات الطويلة في القسم الخلفي الذي استحدث مؤخراً الذي يجلس فيه عادةً الشباب والصبايا، الفنانون، طلاب الجامعة، هواة المسرح والناشئة من الصحفيين والكتاب الذين يطمحون بجائزة تسد رمق خيالهم الإبداعي الواعد، لم يعد هذا المقهى الأثير كما في الماضي، الآن يشعر الرجل المتعب بأنه قد دفع نقوداً إضافية لقاء استراحة عابرة تخلو من نقاش سياسي أو ثقافي مهم إلى جانب فتاة تجرب نكهات معسل جديدة.. ‏

من مقهى إلى بنك ‏

مقهى السياحة تحول إلى مبنى لأحد البنوك الخاصة، بينما كانت المعركة التي خاضها (مقهى الهافانا) لم تكن رابحة طوال الوقت لقد شهد المقهى فترة الثمانينيات القاسية ليتحول بشكل دراماتيكي عجيب بعد أن اشترته وزارة السياحة ووضعت شاشات التلفزيون الضخمة مخصصة جزءاً للعائلات ثم إلى محلات للألبسة الجاهزة لكن المقهى عاد وحقق انتصاراً آخر مفتقداً أصالته هذه المرة..، بعد أن خسر زبائن النخبة وكبار المثقفين الذين توفي معظمهم أيضاً مستقطباً زبائن من شرائح هجينة مع أن أغلبهم احتفظ بطقوس معينة كالدخول إلى حرم (الهافانا) مع جريدة تحت إبطه.. ‏

لاشيء مرّ من هنا ‏

في المقابل بقيت بعض المقاهي الشعبية صامدة أمام رياح العولمة حتى تكاد تعتقد أن لاشيء مر من هنا..، هاهو الشاي الساخن الثقيل يقدم أمام الزبون في (الاستكانة) التقليدية، ونربيش الأركيلة العتيق يعلق على أحد الجدران بعد وفاة صاحبه كنوع من الذكرى وشاهد على وفاء الزبون الخالص لـ مقهى (خبيني)، حيث كان في الماضي الخجول مخبأ للعشاق الطارئين مستغلين شكل المقهى المعماري الذي يحميهم من أنظار الفضوليين من أولاد الحارة والآباء الذين قد يخطر على بالهم جولة في سوق الحميدية ربما.. ‏

فيختار الجلوس في مقهى (النوفرة) في مواجه الباب الخلفي للجامع الأموي، المقهى الذي يبدو أنه قد لقط إشارات الجو السياحي وبات يجذب أعداداً كبيرة من الأجانب سواء كانوا طلاب علم أو مستشرقين، أوقادمين إلى البلاد لغايات مفتوحة، وهو يقدم خدمات الحكواتي مساء يقص على الحاضرين سيرة عنترة بن شداد أو أبي زيد الهلالي أو الظاهر بيبرس، الحكايات التي تثير حمية الشباب من العرب وتسمع تلك الصيحات التشجيعية إثر موقف بطولي لأحد شخوص الحكاية القديمة.. ‏

المقهى وشرطة البلدية ‏

لكن بعض المقاهي في (ساروجة) تختار حلاً آخر لإضفاء هالة القدم في المكان وعلى طوال المثلث في تقاطع جوزة الحدبة مع شارع حمام الورد من جهة وسوق البحصة للإلكترونيات من جهة، انتشرت بين ليلة وضحاها الكراسي والطاولات الخشبية على الطراز القديم على عتبات الفنادق والبيوت الدمشقية الأصيلة في المنطقة، ينتشر فيها الشباب من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية وهواة التمثيل والمصورون والصحفيون مع الشباب القادم من الغرب دون أي حوار حضاري يذكر مع ميزة الثمن الرخيص للشاي والقهوة، ولهذه المقاهي المستحدثة معارك حروب طريفة مع شرطة البلدية التي حلت الأمر نهائياً بمنح معظمها ترخيصاً رسمياً.. الآن تجد في مقهى ساروجة الحديث الشعبي كذلك طاولات مرفهة ومخصصة لشرطة المرور المتعبين من الوقوف الطويل...!! ‏

من جهة أخرى يكاد يكون شارع القيميرية الفصل الحاسم لتاريخ المقهى الشعبي وبعد خطوات أكثر فيه ستدلف جنة الحداثة في مقاه صارت تسمى (كوفي شوب) رغم النافورة القابعة في المنتصف..!، وتوفر لزبائنها الشباب وطلاب الجامعة، أكلات على الصاج، وجبات الطعام الغربية مع شاي أكرك عجم، (باب توما) التي تحولت إلى محلات للطعام السريع والبطاطا على الطريقة التركية، المارشميلو على الصاج أيضاً..، وهاهو المثقف كما وصفه الناس ذات يوم يبحث عن كرسي له في مقهى عادي، مستعيداً أحاديث مقهى الرشيد واختفاء مقهى الفاروق منذ عشرين سنة والمعارك الطاحنة لاستعادة مقهى (الهافانا) إلى قلب الذاكرة... ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.