تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

في الذكرى الثانية عشرة لرحيل الأمير الدمشقي نزار قباني

... أزرار من الياسمين على روحه وشعره  

حين جاء صوته مباشراً للمرة الأخيرة قال لمحاوره:

 

(أظن أني آخر مرة أكلم الشام

دعني أتحدث للشام

دعني أودع الشام

سأقول بعض ما كتبته بالشام)

وبدأ نزار في حواره الأخير:

(لست شيوعياً كما قيل لكم يا سادتي الكرام

ولا يمينياً كما قيل لكم يا سادتي الكرام

مسقط رأسي في دمشق الشام

وقبل أن يتم تدخل المحاور)

فانتقل نزار إلى الهوى الذباح

وبتدخل آخر صار على حدود المفكرة

(فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا

فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا)

لم يشأ المحاور أن يبكينا

لم يرد أن يتركنا مع البوح النزاري الأخير

لم يرض أن يغرقنا في الحب النزاري الجارف

قال نزار:

(ما دمت تريد أن تقول عني فافعل ما تشاء..

أنا أريد أن أبث حبي للشام

أشعر أنني أحدثها آخر مرة..)

انقطع الخط بعد لحظات

وبقي نزار قباني في الذاكرة

نزار قباني المحفوظ بكل التفاصيل

يحرك يديه على سرير المشفى ليتحدث عن الشام

عن الحب الشآمي الذي لم يدمنه الكثيرون

ولا يعرف طعمه الكثيرون من الشآميين

الشام

وما أدراك ما الشام عند نزار

(لن تجدوا في دكاكين الورود وردة كالشام)

هذه شام نزار التي تحولت إلى دم يجري في شرايينه

فهل تحولت الشام إلى حب عند الجميع؟

لو تحولت الشام إلى وردة نزارية

إلى حب نزاري

لكانت الأمور على غير ما هي عليه

الذوبان

التماهي

الافتداء

هذا هو الحب النزاري الشآمي

سنوات طويلة مرت على ذاك الحديث المباشر

ونزار يطل بصوته الرخيم فيأسر الحواس

يغطي على جميع معزوفات القبح

يمسح من الذاكرة كل الغناء المقيت

يرفض كل الأسماء الهجينة

ويحافظ على نقاء هو الشام..

سنوات مرت

ونزار يجوب المدينة كل صباح بحثاً عن قهوته

وعن جريدة تقرأ

وعن أب حنون

وعن أم مثال

وعن وطني نبيل

لا يزال نزار يجوب المدينة

ويجلس جلسته ذاتها

إنه مؤمن بالشام

إنه الشام الهوية..

سنوات مرت ونزار يقرأ من قصته مع الشعر

ويبحث عنها تحت ضوء القنديل الأخضر

ليرسم بالكلمات مستقبل وطنه كما أحب..

نزار لم يكن شاعر المرأة..

نزار لم يكن شاعراً سياسياً..

نزار كان كل الشعر وكل الثورة..

حاول بعضهم تهميش دوره

حاولوا انتقاصه

حاولوا تقزيم دوره

لكنهم أخفقوا

نزار ليس صفحات في ديوان

نزار حياة كلمة

نزار ثورة وطن..

نزار ليس كما يتخيلون!

نزار ليس كما صوروا!

نزار افتتح عهد الحرية في سورية

فأراد وطناً حراً من نقطة الحليب إلى قاسيون

نزار أحدث ثورة بالكلمات

ولأن نزاراً يمثل خطراً اغتيل مبكراً

فهم لا يريدون وطناً حراً

لا يريدون وطناً متصالحاً

اغتيل نزار فقالوا:

سلّع المرأة وقزمها!

وقالوا مرة أخرى:

حرّر المرأة وصورها!

وقالوا وقالوا...

ولكن أحدهم لم يجرؤ فيقول:

لو كانت هذه المرأة لي!

شعر نزار كان بخور كاهن

وربما نسيج إله

ليحوط الشام بسوار من النبل

عشقاً ووطناً

لكننا لا نحسن العشق

ويتعبنا الانتماء وما يستلزم

بالأمس قال نزار:

(يا شام يا شام ما في جعبتي طرب

استغفر الشعر أن يستجدي الطربا

لكنه غضب طالت أظافره

ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا)

بالأمس قال نزار

ومضى ثلث قرن

وسيمضي القرن

ويبقى نزار يصرخ

ويحذر

ويردد

(من قتل الإمام؟)

ومع أنه يقول:

(أنا من طعنه في صدره والرقبة)

ومع أنه رفضه ورفض قمره وخبزه وحشيشه

إلا أننا لم نتعظ

وها نحن نبحث عن الدراويش

لنرقص المولوية وندوخ إلى ما لا نهاية!!

منحنا أنفسنا

وها نحن نمنح أطفالنا

يرتدون الأبيض ليرقصوا في مطعم تراثي

وحين ينتهي الرقص

تتوقف آلات التصوير

ويخرج صوت السياح: أوه

شيء بديع

شيء رائع

برمشة عين تحولت الشام من ثورة إلى ثروة

ومن وطن أبي إلى مربع تراثي

وصرنا دراويش نرقص

ولا نتوقف عن الرقص

لكننا لا نملك الخبز أو الحشيش أو القمر

لو أن ما أراده نبي الشعر نزار تحقق أين كنا؟

لم يكن نزار مجرد شاعر

لذلك لم يتوقف عن قول الشعر

حتى النفس الأخير بقي شاعراً شامياً

يقاتل من أجل عفة دمشق

وحين سيعود وتعود

سيجد الشام كما أراد

إنها عصية

لا يحمل مفاتيحها إلا المحبون

ولن يدخل مغاراتها إلا

عدد غير محدود ممن أخلصوا..

هنيئاً للشام بك يا نزار

وهنيئاً لك بالشام

بعد سنين حافظت الشام على طهارة رسمك

ولم تكترث للوحات المزيفة

وبعد سنين كنت حارس الشام ومنقذها

من الضلال

من ضلال الدراويش ورقصهم

من ضلال الأوباش وعهرهم

للحب رائحة

وليس بوسعها

ألا تفوح مزارع الدراق

الحب مذ زرعته في حارات الشام لم يتغير

رائحة الدراق تجتاحنا يا حبيبنا

وما كنت عن وعد الهوى تتأخر

رائحتك الطهرية تحفظ لدمشق الألوهة

ولن تتغير دمشق..

الخيل لم تدس بحوافرها أدبنا، بل التهمته

ومع أنها عجزت عن التغير

إلا أنها تقيأته وعاد ليحفظ في العيون

اطمئن فالباب الذي يحفظ الشام صغير

ومن الباب الصغير لا يدخل سوى الكبار

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.