تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

قاص سوري باع ذهب زوجته لطباعة مجموعته القصصية


في إهدائه القصير جداً، لخّص القاص والناقد أحمد جاسم الحسين الألم والتجاهل والإقصاء الذي يعتصر أوصال المثقف، والمبدع المكتوي بنار الحرف. فكتابه خَبِيْصَة الذي أمضى عشر سنوات في تأليفه هو آخر عمل قصصي قصير جداً صدر له، حيث يذكر في مُستهل الكتاب أنه باع لأجل نشره ذهب زوجته ـ إذ لم ترض دار تبنيَّ نشره ـ وهذا العمل هو العاشر في قائمة أعماله التي تتراوح بين البحث والنقد والمقال والقصة، ولم تقدّم حتى الآن دراسة عن قصصه. فيتساءل بحرقة: ماذا لو كان في دولة أجنبية.؟!
القاص بإهدائه القصير ذاك، يفجر المسكوت عنه، يطالب باحترام الأديب، وبعودة الروح للكلمة والفكر والثقافة، التي شوّهتها بشكل أو بآخر، الصورة والفضائيات والدراما المبتذلة، أسوة بالعاملين فيها من النجوم ورجالات المجتمع والمتكسبين، وكمعنيّ بأمر القصة القصيرة جداً يطالب بالتدخل السريع لقوعدة هذا الأدب الوليد للعيش جنباً إلى جنب مع سائر الأجناس والفنون الأدبية الأخرى. ومن بعض عناوين قصصه: (ما فعلوه ـ قبل أربعين عاماً فقط ـ أقدم قصة قصيرة جداً ـ العازب ـ كالمستجير من ـ الحق على البعوضة ـ حكاية الآثار..) ‏
تطرح قصصه السبع والسبعين تساؤلات عميقة حول اليومي والاجتماعي والثقافي والسياسي، فضلاً عن تعريتها الفساد المستشري كالوباء في الدوائر الوظيفية ومراكز العمل والنفوس والبيت والحارة: (دودة القز التي ملّت من رتابة حياتها، وخرجت تتمشى في غفلة عن عين أبيها وأخوتها، فالتمّ حولها أبناء الحارة، وَوُجِدَت مطعونة بخنجر في اليوم التالي، بعد أن أنكر والداها نسبها.) وكذلك (جارته التي كانت تخجل منه، وتتحدث معه من وراء الباب، ثمّ يتبين له بعد أن تدهسها سيارة عابرة، أن الذي كان يتقبل العزاء شخص آخر غير الذي كانت تقطن معه في بيته لمدة ثلاثين سنة خلت...)، هذا الفساد المجنون الذي أطاح بالقيم عرض الحائط،، وأصاب الأخلاق في مَقتلٍ، كما في قصتيه «فإن الصمت من وجع و تنصُّت على أسرار الناس» هو ذاته الفساد الذي شوّه الذوق الجمالي العام، حيث نخر الكذب والزيف والتسلق والتملق مفاصل الحياة وأوردتها، تماماً كما جاء في قصته (القبض على سارق الآس) فالسارق الذي كان يعمل على سرقة الآس من قبور الموتى بعد انصراف المعزين، كان يجلّل بها كلّ شيء: المدارس ـ الصحف ـ الإذاعة والتلفزيون ـ الجامعة ـ الساحات ـ المكتبات ـ الأسواق ـ وحتى البشر، في إشارة هامة وصارخة إلى الدور الهام، الموكول والمفترض بتلك الهيئات والمؤسسات الاعتبارية القيام به، لكي تغدو سامية أكثر، فعالة أكثر، عملية أكثر، معطاءة أكثر، وبالتالي ناصعة أكثر: ‏
«يستيقظ مبكراً، يغسل وجهه، يحلق ذقنه، يتناول الفطور، يلبس، يخرج، يصل عمله، ينجز ما هو مطلوب منه، يعود، يتغدى، ينام، يستيقظ، يجلس على الشرفة، يشرب الشاي، يتأمل، يتثاءب، ينام، يستيقظ في اليوم التالي....» قصة بعنوان«خمسون سنة ولم يتغير شيء» ص 13 ‏
فهذه القصة الفنية بامتياز، المعرية للروتين اليومي، التي تخفي أكثر مما تظهر، تفضح بشكل أو بآخر، نمط العيش الأزليّ الذي جعلْنا منه نظاماً صارماً لا غنى عنه. نحن نكذب على أنفسنا، هذه حقيقة مخيفة، لكن علينا الاعتراف بها، ونحن واهمون أيضاً. فما معنى تلك البروتوكولات السخيفة التي نتقيد بها، لنجعل منها ركائز أساسية ليس بإمكان يومنا أن يتصرم دونها.؟! وعليه... فنحن سلبيون، لا مباليون أيضاً، واتكاليون لا نحبذ المساهمة في اتخاذ قرار ما، أو إلغائه بالقول حتى، هذا إذا كان الإقدام على ذلك الفعل مثلاً سينجم عنه عواقب خطيرة جداً. ‏
مما لاشك فيه، أن الحسين يعمل بشكل موفق جداً على اختيار الأفكار الصادمة كمدخل مشوق لقصصه، وتكثيفها حد الخنق، لتنتهي تلك القصص غالباً بقفلة مدوية، محدثة لدى القارئ دهشة غير متوقعة في مفردات قليلة جداً، مقدّماً الصورة التي يريد، ناقلاً الواقع أحياناً بحلوه ومرّه، عابثاً فيه أحياناًًً أخرى بدافع من السخرية والتهكم المريرين، وذلك من خلال تقنيات مشغولة، وعناصر منتقاة، وكثير من المحفزات المتواشجة، لتقديم سرد مراوغ وممتع. لكن يؤخذ عليه مقاربته عدة قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية بجدية وحساسية كبيرة من عدة زوايا مؤطرة، بنفس العقدة والحبكة السردية نفسيهما، مما أوقعه أحياناً في بعض من التكرار، وإعادة المواقف الحكائية نفسها في العديد من نصوصه القصصية، بالإضافة إلى عدم الاستفادة من إمكانيات القصة القصيرة جداً في عديد من قصص المجموعة، رغم أن القاص أفصح في قصص أخرى عن مقدرة فنية بارعة في توظيف تلك الإمكانيات. ومن تلك القصص التي انتابها شيء من حشو لا طائل من ورائه، وتكرار ساهم في خفوت الومضة القصصية: (لن يقع ـ ليتك كنت تكونين معي ـ البارحة أو بعد غد ـ نائم ـ كرة السلة ـ المجنون ـ انتحار حائط ....) فيما بدت قصصه الأخرى مسبوكة ومكثفة، على درجة عالية من التوفيق والجرأة المُوظفة، خالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات، ومنها: (لقد كبر ـ من سيرته الذاتية ـ حوار ـ زوجتي أذكى مني ـ أنتَ حمار ـ محمد الماغوط سامحك الله ـ أبرياء جداً ـ لن يذكره الناس أبداً ـ السؤال النووي ـ ومن الحبَّ ـ ما باليد حيلة ...) يلاحظ هنا أن القصص التي استوفت أركان ومقومات القصة القصيرة جداً مثل: القصصية ـ الجرأة ـ وحدة الفكرة والموضوع ـ التكثيف ـ خصوصية اللغة والاقتصاد ـ المفارقة، كما جاء في كتاب الحسين نفسه، النقدي والموسوم بـ القصة القصيرة جداً، بدت أكثر توفيقاً من تلك القصص التي تسرب الحشو إليها على نحو ما. الأكثر تشويقاً في هذه المجموعة أنها لا تتجاوز الواقع بالمعنى الانزياحي، فكل ما يقال تقريباً يمكن تلمسه في الواقع، من مَشَاهِدَ يومية، جريئة على نحو ما، وهذه السمة بالذات، هي التي ميزت هذه المجموعة، التي تعتبر من المجاميع القصصية الموفقة ـ قراءة واستغواراً وثناءً ـ في فن القصة القصيرة جداً، في المشهد الأدبيّ السوري والعربي على حدٍّ سواء... ‏
خَبِيْصَة: قصص قصيرة جداً ‏
المؤلف: أحمد جاسم الحسين ‏
الناشر: دار التكوين للنشر والطباعة / دمشق ‏
الصفحات: 80 ‏
القطع: الوسط ‏

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.