تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

وسائل النقل والفوضى الخلاقة

 
منذ سنوات وأنا أسافر من العاصمة دمشق إلى مدينتي بحلول كل عيد وبإشراقة كل إجازة. حالي حال آلاف الشباب اللاهثين وراء أحلامهم والذين غادروا مدنهم وذويهم علهم يجدون في العاصمة شيئاً من الأمل في رحلة البحث عن الذات.
وفي الفترة الأخيرة بتُّ أصاب بنوع خاص من الحيرة ، يرافقها شعورٌ حادٌ بالاكتئاب كلما اقترب موعد زيارتي لأسرتي أي موعد السفر . وبالبحث عن الأسباب لم أتأخر عن اكتشاف مكمن المشكلة ألا وهي وسائط النقل.
فالوسائط المتاحة للسفر تنحصر في النقل البري ( سواء على الخطوط البرية أو على السكك الحديدية ) والنقل الجوي أي الطيران الداخلي . وكلاهما يعاني مما هو كفيل بالإقلاع تماماً عن فكرة السفر.
فما أن أفكر بركوب الباص أو القطار حتى تداهمني صور الكراج (أو محطات السكك) المحشوة بكل أنواع الاوساخ على الأرصفة والجدران ، وتحضرني تلك العيون الفضولية والمذهولة بأي إنسان نظيف والتي تزداد حدقاتها اتساعاً في حال كان المُراقَب أنثى مهما بلغ احتشام ملابسها وسلوكها .
فضلاً عن الأساليب البدائية في التفتيش والتي تبيح للموظف المسؤول أن يعبث  " بكفيه النظيفتين " في أغراضك وحاجياتك ليترك لك بعدها حقيبتك مفتوحة ومبعثرة وبحاجة إلى عملية إعادة ترتيب يستحيل إتمامها ضمن الأمواج البشرية المتدافعة والمتزاحمة.
ناهيك طبعاً عن " المنادين " وهم أشخاص يتقاضون بقاشيش زهيدة لقاء الانقضاض على المسافر الداخل إلى الكراج وإقناعه بالسفر على متن باصات شركة معينة فتراهم يصرخون بأسماء المحافظات وبمواعيد إقلاع الرحلات ويلتصقون بك ليقسموا أن الباص سيغادر في موعده ولن يتأخر ، وأنك لن تجد مكاناً أكثر راحة من المقعد الذي " سيدبره " لك خصيصاً.
أطرد سريعاً فكرة النقل البري كمن يطرد ذبابةً تلقي بجراثيمها أينما حطّت. وأستعرض في عقلي ميزات النقل الجوي علّي أجد ضالتي هناك.
لكني لا البث أن أمد يدي إلى جيبي لأتأكد أن ما لدي من نقود يخوّلني امتطاء الطائرة ، فرحلة الطيران الداخلي ستكلفني ذهاباً وإياباً ما يقارب نصف راتبي
( وهو راتب حكومي ) دون احتساب أجرة سيارات النقل من قلب المدينة إلى المطار وبالعكس.
وما أن أتغاضى عن هذا التناقض الفاحش بين الرواتب والأسعار وأقنع نفسي أن راحتي تستحق تضحيةً ماديةً من نوعٍ ما ، حتى أتذكر مشكلة الوقت .
فاللجوء إلى الطيران قد لا يعني في أغلب الأحوال اختصاراً للزمن بل يعني إهداراً مضاعفاً له . وطبعاً أسباب الهدر كثيرة فما إن تصل إلى المطار حتى تحار أين تضع قدمك ؛ أفواج وأفواج من المسافرين والمودعين والمستقبلين المتداخلين ، لا ينظمهم نسق ، ولا تهديهم يافطة ، ولا ترشدهم إشارة.
وإن أخطأت بسؤال أحد الموظفين، المارّين " صدفة " في ممرات وقاعات المطار، عن وجهة ما ستفاجئك نظرته الغاضبة ، ورده الحاد المقتضب ثم انصرافه النزق السريع حتى تشعر وكأنك اعتديت على وقته أو راحته أو وظيفته أو بأنك مسافر على حسابه وبأن السؤال أو الاستفسار ممنوعان تماماً.
وإن وُفّقت بالوصول إلى بوابة طائرتك بعد رحلة طويلة بين أدغال الحفريات ومتاهات أعمال الإصلاح ستضطر للإنتظار ساعاتٍ وساعاتٍ حتى موعد الإقلاع المؤجل دائماً لأسباب غير مفهومة وغير مصرح بها.
ودخول الطائرة بعد صبرٍ جميلٍ ليس سبباً كافياً لتنفس الصعداء ، فالراحة والرفاهية المرتقبتان غادرتا المكان منذ زمن وخلفتا مكانهما كل أشكال القدم والاهتراء  في أثاث الطائرة مع الكثير من الأعطال والإبطاء في خدماتها ولن تشعر بأي فرق بينها وبين أسوأ باص " هوب هوب " تابع لأسوأ شركة نقل.
أستطرد في إحصاء مساوئ كل وسيلة نقل ، وأعود للمفاضلة بين أقلها هدراً للمال والوقت وأخفّها حرقاً وإتلافاً للأعصاب . فلا أجد سوى الفوضى ، فوضى تنتمي في جانب ما إلى " الفوضى الخلاقة " ( المبدأ الأمريكي المعروف لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.)
إلا أنّ هذه الفوضى خلقت لدي شيئاً مختلفاً ، لقد خلقت أسفاً على حالنا ما لبث أن تحول مع تفاقم الاستهتار والإهمال إلى قرفٍ واشمئزاز.
فأُجبر على إلغاء رحلتي وتأجيل زيارة أهلي إلى مناسبة أكثر إلحاحاً حفاظاً      _ وقبل كل شيء _ حفاظاً على الكرامة.
 
                                                                                                                                                     زينة حموي
 
         
 
          

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.