تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

محمد الماغوط.. عندما يكون الشاعر ضمير وطنه الفرح لا يكون مهنته

مصدر الصورة
بلدنا السورية

 

 

 

متكئ على جزع أغنية يتردد صداها في هدأة أعماقه “ممالك الغرقى” تمسح بمنديل حروفها غبار الكرى المتراكم فوق قلبه “رابية الحسرة” ينصت محمد الماغوط إلى كأس نبيذ تقصّ عليه دمعه كيما تشاطره العزاء بينما زفرته الطويلة التي صارت أنشودة تسترجع صدى أطياف أحباء  يتكاثرون في نعاسه العاري، قبل أن يصحو من أثر جمر التبغ المتدلي من شفتيه، حين لا حياة لليد التي لوحت للحياة، كما لوحت للتعب اليد التي رسمت للعذارى حفيف صحوة الرمان، تحت وطأة الساتان الموشى بذهب أغانيه “وراء كل نافذة شاعر يبكي وفتاة ترتعش..قلبي يا حبيبة فراشة كئيبة تحوم حول نهديك الصغيرين”.

 

لم يكن يدري ذلك الفتى العائد من ثانوية خرابو الزراعية في غوطة دمشق إلى مدينته السلمية، بعد أن أحرجته رسالة والده الفلاح الفقير إلى مدرسته ليرأفوا بابنه. إن تلك الرسالة ستغير حياته إلى الأبد، عندما انتسب الفتى إلى الحزب القومي السوري دون أي معرفة منه بمبادئه، إلا أن مقر الحزب يحوي مدفأة هي غايته الحقيقية في الانتساب إليه، كما كانت السبب أيضاً في دخوله المعتقل السياسي بطريقة ما، بعد اغتيال العقيد المالكي واتهام أعضاء الحزب القومي السوري باغتياله، وملاحقة أعضائه وزجهم في السجن، ومن بينهم كان صاحب العصفور الأحدب. ولأن للحياة مصادفاتها الغريبة، تعرف الماغوط إلى الشاعر السوري أدونيس المعتقل السياسي أيضاً، لتبدأ بين الكبيرين سجالات ونقاشات مطولة حول الشعر، أعطت الماغوط أفقاً آخر لتجربته الشعرية التي بدأها قبل ذلك التاريخ بوقت قريب، عندما نشر قصيدته الشهيرة “غادة يافا” في مجلة الآداب البيروتية، استطاع صاحب “كاسك يا وطن” الهروب إلى لبنان والتقى الشاعر السوري يوسف الخال، لينضم إلى رواد خميس الشعر؛ وهو احتفاء شعري كان يقيمه الشاعر الخال في بيته كل يوم خميس بحضور عدد من رواد قصيدة النثر، ومن بينهم أدونيس وأنسي الحاج، وعبد المعطي حجازي، وطبعاً الماغوط  الشاعر الأكثر جدلاً وإثارة رغم قلة اكتراثه بالجدية التي كان الخال يتعاطى بها مع خميس شعره، لتصدر بعد العديد من تلك الجلسات المجلة الشهيرة المختصة بالشعر باسم “مجلة شعر” في الفترة التي احتدمت فيها معركة المصطلحات الشعرية التي بدأتها الشاعرة العراقية نازك الملائكة برفضها تسمية قصيدة النثر، معتبرة أن ما ينشر في مجلة شعر هو ما أسمته الشعر الحر، مستخدمة قصائد الماغوط دون غيره من شعراء المجلة في محاججتها الشعرية. أدار صاحب ديوان “حزن في ضوء القمر” ظهره إلى كل تلك المهاترات “الفاضية” كما كان يسميها، مؤثراً أن ينحت الكلام من الهواء والماء والطيور والأشجار والنساء والخمر بأسلوب شعري فريد ومتميز، إن كان بالسرد اللغوي الذي جاء عنده عفوياً وتلقائياً، بعيداً عن التصنع والثرثرة الفائضة عن الحاجة أو بطريقته المدهشة بإنزال الشعر من مراميه الفلسفية وأبعاده الماورائية وجدله البيزنطي إلى حرارة الحياة اليومية بكل تفاصيلها، بألفتها وقسوتها، بفرحها وحزنها، بضجرها ودهشتها؛ لتأتي مجموعته الشعرية الأولى “حزن في ضوء القمر” تتويجاً للحالة الشعرية العالية التي كان يحياها بعيداً عن صخب الكلمات الطنانة، ولتصبح حديث مجلة شعر والعديد من الدوريات الثقافية والفكرية التي أرعبها ذهولها ووقوعها قي غرام هذا الكلام البسيط والمدهش في آن. أحدثت تلك المجموعة الشعرية الرائعة لشاب مغمور نقلة نوعية في طريقة التفكير بالشعر، وكانت بمثابة ضربة جناح قوية لطائر في فضائه بما تضمنته من قصائد امتازت بكثافة الصور الشعرية الرشيقة والمتلاحقة، كما لو أنها فيلم سينمائي يسرد شعراً بالصورة المرئية، ومن أجمل قصائد هذه المجموعة الشعرية قصيدة “القتيل” التي يقول فيها: “كانوا يكدحون طوال الليل، المومسات وذوو الأحذية المدببة، يعطرون شعورهم، ينتظرون القطار العائد من الحرب، قطار هائل وطويل كنهر من الزنوج، يئن في أحشاء الصقيع المتراكم على جثث القياصرة والموسيقيين”.

 

لم تكن القصيدة بالنسبة إلى صاحب “غرفة بملايين الجدران” تصدر عن وعي مباشر وإدراك حسي واعٍ، بقدر ما كانت تنبع من أعماق نهر يتفجر في داخله، تنبعث منه الكلمات والصور من رقادها في أعماقه، لتصير كائنات من لحم ودم على الورق، بتلات ورود حقيقية وخصور نساء تلمسها عيناك وأنت تقشر لحظة قراءتها كبرتقالة يسطو على عبقها الندم، ونادراً ماكان الماغوط يعيد صياغة قصيدته بعد أن يكتبها لأول مرة؛ لأنها تولد من رحم خياله مكتملة النمو وناضجة، تاركاً للبرية التي سقت نظراته بمدى لا ينتهي أن تجتاحه، أن تتموضع فوق الورق كما يريد أو كما تريد لافرق، مادام يكتبها وتكتبه يحضنها وتحضنه. يقول هذا النبي الجديد في قصيدة “أغنية لباب توما”: “أشتهي أن أكون صفصافة قرب الكنيسة أو صليباً من الذهب على صدر عذراء تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى، وفي عينيها الجميلتين ترفرف حمامتان من بنفسج”. رغم كثرة النقد اللاذع الذي تناول القصيدة الماغوطية واتهامها بأنها تقوم على الصور المسطحة التي لا عمق فيها، وبأنها تفتقر إلى الحركة الداخلية، وأن شعره بحاجة إلى روافد جديدة من المفردات المبتكرة والصور الجديدة، إلا أن قصيدته استطاعت أن تكون القصيدة الأكثر وصولاً إلى قلوب الناس، إن كانوا من البسطاء العاديين أو من المثقفين النخبويين الذين وجدوا في الماغوط الشاعر الفرنسي”رامبو”، بصوفيته العميقة وسرياليته المتجددة والقوة الإيحائية المنبعثة من الطاقة الهائلة التي تولدها مفردات قصيدته من علائقها المتشابكة، وهي بكامل انفصالها، كما أن الشاعر السوري “منذر مصري” اعتبر في مقالة له أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية، الشعرية منها خصوصاً، أن كل الشعراء السوريين الذين جاؤوا بعد الماغوط خرجوا من معطفه، حتى صار معطف الماغوط أشهر من معطف غوغول، وهناك من اعتبر ان القصيدة الماغوطية هي لعنة الشعراء السوريين الذين لم يستطيعوا الخروج من سطوة شعره على نصهم وخصوصا جيل الثمانينات والتسعينات. ومن تابع الحركة الشعرية في تلك المرحلة، فسيجد إلى أي درجة كانت النصوص الشعرية للعديد من الشعراء تتكئ في نسيجها الداخلي على المنهج الشعري الفريد والخاص بصاحب “الفرح ليس مهنتي”.

 

لعب محمد الماغوط بعد عودته إلى دمشق دوراً كبيراً وفعّالا في تظهير المشهد الثقافي السوري بمنطق ومظهر جديدين مفارقين للسائد بكل تشعباته، إن كان في الشعر أو المسرح أو الدراما؛ فكما كان طائراً برياً في الشعر، هكذا كان شأنه في المسرح، عندما عمل على تأليف عدد من النصوص المسرحية، عمد فيها إلى تكسير كل القوالب المسرحية الجاهزة برتابتها وضجرها ولغتها الخشبية، تلك النصوص التي أعادت للمسرح ألقه وجمهوره وجعلته فن الشعب، بملامسته الحقيقية لهموم الشعب وأوجاعه بطريقة متهكمة وساخرة ومؤلمة حد الحزن في طرحه لمواضيع لا تابوهات فيها من الديني والسياسي والجنسي، مؤمناً بحقيقة أنه لا يوجد جمهور رديء، بل يوجد فن جيد وفن رديء والفن الجيد هو الذي يعكس نبض الشارع، ويرفع صوت صرخته عالياً، ولكم كان لتعاونه مع العملاق الفنان دريد لحام كبير الأثر في إعادة الحياة إلى مسرح نقابة العمال في العديد من الأعمال المسرحية التي مازالت حتى اليوم تتركنا مشدوهي الأبصار ونحن نتابع كيف يستطيع المبدع الحقيقي أن يستشف المستقبل ويحذر من التشوهات الاجتماعية التي بدأت تضرب الأرضية الصلبة لسورية الجريحة اليوم، بعد أن حذر من أن تلك الأخطاء والمحسوبيات وفساد المسؤولين، سيحدث زلزالاً في المستقبل. وها نحن الآن نقف على ألواح الجليد المتكسرة التي تتلاطمها مياه الغدر من كل جهة. ومن أهم أعماله المسرحية “كاسك يا وطن، غربة، ضيعة تشرين، خارج السرب.. وغيرها “ ومن الأعمال التلفزيونية “حكايا الليل، وين الغلط، وادي المسك”، كما أسهم محمد الماغوط بقامته السورية العالية في تحديد هوية وطبيعة وتوجه جريدة تشرين مع رفيقه الأديب زكريا تامر عند نشأتها وصدورها في منتصف السبعينات.

 

 بعد أن فقد الفرح ولم يعد مهنته، صار الحزن الصديق والخل الحقيقي لمحمد الماغوط الشاعر والإنسان والرجل والزوج والأب.. الحزن الذي لوّن حياته وصاغ الكثير من إبداعه الشعري والأدبي، عندما بدأ يفقد أحبته تباعاً، ليرحل والده الطيب أولاً، ثم أخته الوحيدة ليلى، وبعدها رفيقة عمره وحبيبته الوحيدة الشاعرة سنية صالح، التي كان يقبّل قدميها وهي على فراش الموت، تقول له: أنت أنبل رجل في العالم. صار الحزن والتبغ والنبيذ سُمّاره بعد أن قرر أنه سيخون وطنه بشرف شفاف وصدق لم تحتمله روحه النبيلة، ليؤلف كتابه الأشهر “سأخون وطني”.. نعم لقد خان الماغوط وطنه، وطن الفساد والرشوة والفقر والبطالة والتسلط والتعصب الديني والتحزب المذهبي. خان الوطن الذي فصّله الفاسدون على مقاسهم ومقاس أقاربهم ونهبوا خيراته وتركوه عرضة للتخلف والجهل وآفة الآفات الطائفية. خان الوطن الذي مات في حضنه وحيداً وغريباً في بيته المتواضع في السلمية متكئاً على وسادة حشاها من قطن دموعه بحضور رفيقته الدائمة سيجارته، التي لم تفارق شفتيه النبيلتين وزجاجات النسيان الفارغة، بعد أن كتب بحبر موته: لقد سئمتك أيها الشعر أيها الجيفة الخالدة

                                                                                                                               تمام علي بركات

 

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.