تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ريمون بطرس: سينمائي يحفر تاريخه بالإزميل والمطرقة

مصدر الصورة
الاخبار اللبنلنية

 

رفضت «المؤسسة العامة للسينما» تعيينه بتهمة الشيوعية. ابن حماه الذي يكتب حالياً سيناريو روائياً طويلاً عن الهوية السورية، يتأسف اليوم على حال الفن السابع في بلاده ويصف الأزمة الحالية بأنّها خلّفت «كسوراً في الجسد والروح»

 قبل أن تندلع الانتفاضة السورية بأسابيع، كان ريمون بطرس يتهيأ لوضع اللمسات الأخيرة على سيناريو فيلم روائي طويل. ورشة من السينمائيين التسجيليين الشباب تجوْل في الجغرافيا السورية لفحص تضاريس هوية ملتبسة تنهض على نصين متناقضين. الأول «شعاراتي» يتجلّى أمام الكاميرا، والآخر مضمر، بما لا تسمح به الرقابة، فحواه «الكرامة المهدورة».

 

كان المخرج السوري يفكّر في توثيق مسار «العدسة المعطّلة» بوصفها هويّة مؤجلة، غير قابلة للتحقق، وفي رهان على خطاب بصري يلحظ تنويعات الخريطة السورية بلهجاتها المتعددة. ستتجاوز الوقائع المتسارعة المتخيّل السينمائي بمسافة طويلة، ما وضع صاحب «الترحال» (1997) في ورطة... لكنها ليست الورطة الأولى على أي حال. الواقع أن مسيرة هذا المخرج السوري مليئة بالحفر والعثرات والكوارث. هكذا، قبع في غرفة المونتاج سنةً كاملة، أمام جهاز المافيولا، لترميم ما لم يطله مقص الرقيب من شريطه الروائي الأول «الطحالب» (1991) معالجاً الكسور التي أصابت مقترحه البصري في إعادة كتابة تاريخ مدينته حماه. في شريطه الروائي الثاني، سيمزج صورة النكبة الفلسطينية بوقائع عائلية، راصداً جموع العائلات الفلسطينية التي وصلت في القطار للتو بعد حرب الـ48، من دون أن يكون الأب المهاجر إلى فلسطين بين العائدين، فتعيش العائلة الحموية نكبتها الموازية. بعد إنجاز فيلمه الروائي الثالث «حسيبة» (2007)، رفضت الرقابة السينمائية ثلاثة مشاريع تقدّم بها إلى «المؤسسة العامة للسينما». وبعد مناوشات طويلة مع اللجنة الفكرية في المؤسسة، غادر المكان خائباً. يتوقف ريمون بطرس أولاً، عند الباخرة التي حملته أول مرّة من اللاذقية إلى أرمينيا، ثم إلى أوكرانيا، بمنحة دراسية من الحزب الشيوعي السوري. يصف رحلة الإبحار التي دامت أسبوعاً كاملاً، بأنها «رحلة الأحلام الكبيرة في صناعة سينما جديدة». في السفينة المبحرة، استعاد مشاهد من أفلام علّمته معنى السينما، متذكّراً على نحو خاص، فيلم «روميو وجولييت» (1968) للمخرج الإيطالي فرانكو زيفريللي، وتعلّقه بجماليات سينما الواقعية الإيطالية الجديدة. كانت منحة الحزب الشيوعي مخصصة لدراسة الهندسة، لكنه أصرّ على دراسة السينما بدلاً من معهد الطاقة، فكان أول طالب أجنبي يدخل «معهد كييف للسينما». شريطه التسجيلي «صهيونية عادية» الذي أنجزه خلال دراسته في المعهد، لقي ترحيباً نقدياً استثنائياً، ونال الجائزة الكبرى في مهرجان «مولديست» للمعاهد السينمائية في الاتحاد السوفياتي (1974). صدمة غير متوقّعة ستواجهه بمجرد عودته إلى سوريا. رُفض طلب تعيينه في «المؤسسة العامة للسينما»، الجهة الوحيدة المخولة صناعة الأفلام في سوريا. كانت تهمته «الشيوعية»، لكن «الشيوعي الأخير» كما يقول عن نفسه، لم يفقد الأمل مباشرة. ناطحَ البيروقراطيين سبع سنوات متواصلة في الدفاع عن حقوقه المهدورة. في «المؤتمر الأول للسينمائيين السوريين» (1977)، ألقى شهادة غاضبة في وصف أحواله كسينمائي عاطل من العمل، متهماً إداريي وزارة الثقافة بمحاربته، فطُردَ من القاعة. بعد تفكير، لم يجد أمامه سوى أن يعود إلى مهنته القديمة: العمل في الحجارة! توجّه إلى سوق الحدّادين في دمشق، واقتنى إزميلاً ومطرقة. يقول: «كان والدي واحداً من أهم الحجّارين في مدينة حماه، وقد تعلّمت على يديه أسرار الحجر: كيف تحوِّل بالإزميل والمطرقة صخرة صمّاء إلى عمل فني مدهش». هنا، سيستعيد سيرة والده، وكيف كان يرافقه إلى الورشة في طفولته وصباه، قبل أن يغادر الأب المدينة إلى فلسطين ولبنان، مسبوقاً بسمعته حجّاراً بارعاً، ثم تحضر صورة شقيقه خليل، نحّات الحجارة وعازف الناي الذي استشهد في الجولان قبل خمسين عاماً، وشقيقه الآخر ميخائيل الذي تطوّع في حرب السويس، أثناء العدوان الثلاثي على مصر. سنجد جانباً من سيرة العائلة الشيوعية المطاردة، في معظم أفلامه، ذلك أنّ ريمون بطرس سيبقى أسير بيئته الأولى في حماه، وسيكتب بصرياً سيرة نهر العاصي في أحوالٍ مختلفة، بوصفه شاهداً على الآلام، أولاً وأخيراً. نسأله: ولكن ألا تجد تماثلاً في أفلامك لجهة عزفها على ثيمة بصرية واحدة؟ يجيب: «على الإطلاق»، ثم يضيف شارحاً وهو يرنو ببصره إلى صورة لنواعير حماه معلّقة على أحد جدران مكتبه: «كل فيلم صنعته ينهض على مقامٍ مختلف، ولكل معزوفة هارمونيتها الخاصة بها. ليس لنواعير حماه الأنين ذاته، إذا أصغينا بعمق إلى هدير الموج».

 هذا الشغف بتاريخ مدينته وحجارتها وشوارعها وبشرها، هو الموّال الذي رغب صاحب «الشاهد» (1985) في تحقيقه عبر كادر بصري مشبع. في المقابل، يعترف بأنه محبط مما آلت إليه السينما السورية. يقول متحسّراً: «ليس هناك سينمائي سوري واحد حقّق ما كان يصبو إليه، بالمقارنة مع الأحلام التي راودتنا في البدايات لجهة حرية التعبير والرؤى السينمائية»، ويضيف بمرارة: «للأسف بقيت سينمانا في مرحلة الموّال الفردي، ولم تطأ عتبة الأغنية الكاملة». خساراته في تحقيق أفلام روائية إضافية، عوّضها في إنجاز الأفلام الوثائقية، إذ تمكّن خلال مسيرته من توقيع 17 شريطاً، كان آخرها «ملامح دمشقية» (2008). في هذا الشريط، رصد الفسيفساء السورية، حجراً وبشراً، مؤكداً روحانية العاصمة عبر تاريخها الممتد إلى ثمانية آلاف عام، من دون أن تفقد نسيجها الاجتماعي المتعدد. أهدى شريطه هذا «إلى الأيدي المبدعة التي حفرت في الصخر وطناً اسمه سوريا». في الوقت الضائع بين محطاته السينمائية المتعثّرة، لجأ صاحب «عندما تهبّ رياح الجنوب» (1976) مضطراً إلى الترجمة عن اللغة الروسية، وكتابة المسلسلات التلفزيونية، والبرامج الإذاعية، والمقالات الصحافية، وقد دأب، منذ اندلاع الأحداث في سوريا، على كتابة عمود أسبوعي في صحيفة «الوطن»، محاولاً تفكيك اللغز (اللغم؟) السوري، بمشهديات خاطفة تتناوبها مواقف شخصية، وجراح الآخرين، مستعيراً صورة الحكواتي في سردياته. يكتب في أحد أعمدته: «كل سوري ينتظر طلقته الأخيرة على لوائح رصاص القتلة»، مختزلاً المحنة السورية الدامية التي خلّفت «كسوراً في الجسد والروح».

 

                                                                                                خليل صويلح

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

5 تواريخ

 

1950

 الولادة في حماه وسط سوريا

 

1976

 أنهى دراسته في «معهد كييف للسينما» في الاتحاد السوفياتي

 

1991

 أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول «الطحالب» (إنتاج «المؤسسة

 العامة للسينما»)

 

2008

 أنجز فيلمه الوثائقي «ملامح دمشقية»

 (32 دقيقة) بدعم من المفوضية الأوروبية

 

2012

 يعمل على سيناريو روائي طويل عن الهوية السورية

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.