تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

صادق جلال العظم: المفكّر الذي دافع عن "حريّة" سلمان رشدي

مصدر الصورة
sns - الأخبار

 

محطة أخبار سورية

للوهلة الأولى، تظنّ أنّ تحدّر صادق جلال العظم من عائلة أرستقراطية دمشقية عريقة ذات جذور عثمانية وفروع تركية، جعل تحوّله إلى الماركسية حدثاً بالغ الصعوبة. الشائع عندنا أن الأرستقراطية تقوم على تقاليد رثّة ومتزمتة. ولكنك تكتشف أنّ هذه العائلة نفسها كانت حاضناً أوّلياً للأفكار النقديّة والطليعيّة التي ستخطّ مسيرة هذا المفكر المشاكس الذي ارتبط اسمه بمعارك التحرر وقضايا التنوير...

 

أمه كانت متمردة تحب الرسم، لا يزال يعلّق لوحات لها على جدران شقته في رأس بيروت. الأم نزيهة عانت كثيراً قبل أن تستقلّ مع زوجها ببيت خاص خارج بيت العائلة الكبير. زوجها جلال هو ابن عمها الذي درس في اسطنبول وقاتل دفاعاً عن التجربة الكمالية في تركيا، وعاش فترة في باريس. بوالدين متفتّحين كوالديه، كان طبيعياً أن يدرس الصبي في مدرسة الفرير الفرنسية، وفي المدرسة الإنجيلية في صيدا، ثم يختار دراسة الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث سيعرف، لاحقاً، أنّ الأرض التي قامت عليها كانت لجدِّ جدِّه مؤيد باشا العظم. يضحك حين تسأله عن إحساسه كطالب درس في جامعة بُنيت على أرض كانت مملوكة لعائلته، ويقول: «أحسستُ أنّ مؤيد باشا كان يتمتع ببُعد نظر. باع أرضه لتُقام عليها جامعة ستصبح لاحقاً صرحاً علمياً وأكاديمياً شهيراً في المنطقة».

 

التربية التي تلقّاها من والديه ومحيطه، فضلاً عن نزوعه الذاتي إلى الثقافات الحديثة، سهّل عليه الوجود في مواقع الفكر الليبرالي والتقدمي والاشتراكي التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي. ومع العدوان الثلاثي على مصر، امتزج النزوع الحداثي مع تكوّن وعيه الذاتي حيال قضايا الشأن العام. أما ماركسيته، وهي ماركسية مختلفة عن النسخة الفقيرة التي سادت لدى الأحزاب الشيوعية العربية، فكانت نتيجة منطقية لكل ما سبق. لماذا لم ينتمِ إلى تنظيم شيوعي؟ تسأله، فيردّ بسرعة: «انتماء كهذا لم يكن ليتّفق مع حسّي النقدي. زملائي الحزبيون أنفسهم كانوا ينصحونني بالبقاء خارجاً، قائلين إنهم سيستفيدون من أطروحاتي وكتاباتي بشكل أفضل».

بين بيروت ودمشق، قضى معظم حياته هذا الأستاذ الجامعي المتخرّج من جامعة ييل بأطروحة عن كانط: «يستحيل عليّ أن أتصور نفسي كاتباً ومفكراً من دون هاتين المدينتين معاً». يقول العظم الذي قرّر منذ البداية ألا يتحول إلى مثقف عربي في المنفى. كان سهلاً أن يصبح أستاذاً مرموقاً في جامعة أوروبية أو أميركية، لكنه أراد أن يكون قريباً من القضايا التي تشغله، مع الحفاظ على حريته في معالجتها ونقدها.

 

ولعل الصورة لن تختلف إذا قلنا إن قربه من هذه القضايا هو الذي أبعد عنه كأس المنفى، فقد قضى العظم حياته متنقلاً من جبهة فكرية إلى أخرى. يغلق ملفاً فينفتح آخر في وجهه، حتى إن صفة «المشكلجي» بالمعنى الإيجابي طبعاً، باتت ملتصقة ولائقة به. ما إن يُذكر اسمه أمامك، حتى تكرّ سُبحة الجبهات التي حارب عليها. البداية مع كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ثم «نقد الفكر الديني» الذي حوكم بسببه وسُجن ثم بُرّئ. وأثناء عمله أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروت، رفضت الإدارة تجديد عقده سنة 1968، وفُصل بسبب انزعاجها من كتاباته، وتوقيعه عريضة تطالب بانسحاب الجيش الأميركي من فيتنام، فضلاً عن خلافه مع شارل مالك الذي «لعب الدور الأهم في تخليص الجامعة مني» بحسب تعبيره.

 

بعدها، ذهب العظم إلى عمّان ودرّس في الجامعة الأردنية، لكن سرعان ما وُضع اسمه على قائمة الممنوعين من دخول البلد، ووُضع هو نفسه في أول طائرة متوجهة إلى بيروت، بسبب عمله مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في بيروت، عمل باحثاً في «مركز الأبحاث الفلسطيني» وأصدر كتاب «دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية»، فأثار غضب القيادة الفلسطينية، وتلقى تهديدات جديّة، وفُصل من مركز الأبحاث بأمر من أبو عمار، ومُنع من الكتابة في مجلة «شؤون فلسطينية» إلا أن أنيس صايغ، رئيس التحرير وقتذاك، تدبّر مسألة استمراره في المجلة باسم مستعار.

 

في الثمانينيات، عاد إلى جامعة دمشق أستاذاً في قسم الفلسفة. دُعي للتدريس في جامعة برنستون خمس سنوات، وعاد مجدداً إلى دمشق. ولكنّ حاسته النقدية المتأججة أعادته إلى الحلبة المفضَّلة لديه مع الضجة التي أثارها سلمان رشدي برواية «الآيات الشيطانية»، فأصدر كتاب «ذهنية التحريم» ثم «ما بعد ذهنية التحريم» مدافعاً عن حرية الكتابة، ومنتقداً الاستقبال العربي والإسلامي، الجاهل والضيّق الأفق، للرواية. يستعيد تلك الفترة، ويقول: «ذكّرتني قضية الآيات بنفسي عندما خضتُ معركة نقد الفكر الديني، مع فارق حاسم وهو أني حظيتُ بمساجلين من عيار الشيخ محمد جواد مغنية والإمام موسى الصدر والمفتي نديم الجسر، في محاكمة خرجتُ منها سالماً، بينما صدرت فتوى بهدر دم سلمان رشدي».

 

السجالات والمعارك النقدية ذاتها رافقته حيثما ذهب، إلى أن ختم حياته المهنية بالتقاعد من منصبه رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة دمشق. «خلصوا مني وخلصت منهم» يقول ضاحكاً.

 

يصعب فصل سيرة العظم الشخصية عن سيرته المهنية. تكاد السيرتان أن تكونا سيرة واحدة، فهو غير موجود تقريباً خارج سيرته المهنية باحثاً وناقداً كبيراً. تحسده على الزمن الذي عاش فيه، وتتحسّر على راهنك الخالي من دسم الأفكار والمشاريع والأحلام والظواهر الكبرى. تسأله إن كان يرى أنّ المشروع العربي السياسي والتحرري فشل، وأن الفكر التنويري اليوم هو بلا مشروع وبلا حامل تاريخي وواقعي؟ يُقرّ بأن المشهد مؤلم، ويضيف: «أعتقد أننا بلا مشروع أو حامل ظاهر بالطريقة التي سادت في المراحل الشعبوية: الناصرية والفلسطينية والبعثية. لكن في العمق، حتى القوى الأكثر رجعية ومحافظة متيقّنة من أنها ستتهمّش إن لم تتأقلم مع شروط العصر الحديث». وهل يحس أن نقده الطويل والمتواصل لظواهر ثقافية ومشاريع فكرية شغله عن طرح مشروع فكري كبير خاص به؟ يقول: «بالعكس. المشاريع الكبرى والشمولية كانت دوماً تُشعرني بـ«نقزة» واستغراب. وما ظهر منها في الستينيات حمل في طياته الكثير من المسلّمات غير الممحَّصة، فضلاً عن تهافتها وضعفها في مسائل عدة».

 

مقارنة بالآخرين، يبدو صادق جلال العظم ذا مذاق غربي. إذْ نادراً ما نرى مثقفاً وباحثاً عربياً يمارس الصرامة النقدية عينها مع نفسه ومع غيره. هل لا يزال ماركسياً؟ تسأله مختتماً الحديث: «ما زلتُ أطلق هذه الصفة على نفسي. انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول النماذج الدوغمائية جعلني حراً ومرتاحاً أكثر لماركسيتي». ثم يضيف مبتسماً: «لا تنسَ أني لم أكن دوغمائياً حتى في عزّ الماركسية».

حسين  بن حمزة

5 تواريخ

1934

الولادة في دمشق

1969

أصدر كتاب «نقد الفكر الديني» (دار الطليعة) الذي أثار سجالاً واسعاً وأدخله السجن قبل أن تقرر المحكمة براءته

1994

صدور كتاب «ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب» (دار المدى)

1999

تقاعد من منصبه رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة دمشق، وتفرّغ للكتابة، ودرّس في جامعات عدة: هامبورغ، أمستردام وحالياً في برنستون.

2008

صدور كتاب «هذه المحرّمات التي تسكننا» بالفرنسية عن دار Parenthèses، ويتضمن مقالات ودراسات حديثة، مسبوقة بحوار طويل أجراه صقر أبو فخر ونشر بالعربية في كتاب بعنوان «حوار بلا ضفاف» عام 1998.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.