تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

نبيل سليمان: ناسك البودي... تطهّر من هزائمه المبكّرة

مصدر الصورة
صحيفة الاخبار اللبنانية - sns

حين عثر الدركي على «كرّاسة حزب البعث العربي الاشتراكي» تحت سرير ولده البكر، ضربه وأرهبه من مغبّة الدخول في هذا الشأن. المستقبل الذي خطط له الأب كان مثالياً وهادئاً: سيلتحق الابن بالثانوية الصناعية في اللاذقية، وهو أمر يوفّر مكانة اجتماعية وبحبوحة ماديةً أيام الوحدة السورية المصرية.
ليس هذا الابن سوى الروائي السوري نبيل سليمان الذي ما زال يعمل بنصيحة والده حتى اليوم. ظلّ بعيداً عن الأحزاب والتدخّل في السياسة، في زمن كان يصعب فيه ألّا تكون جزءاً من تنظيم أو حركة أو حزب، وخصوصاً في سوريا الخمسينيات والانقلابات. لكن صاحب «مدارات الشرق» كان مأخوذاً في فترة الوحدة السورية المصرية بالرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكانت الثانوية الصناعية ــــ حيث يدرس ــــ وكراً من أوكار البعثيين والناصريين الذين يسيّرون التظاهرات بهتافهم «بدنا الوحدة باكر باكر... مع هالأسمر عبد الناصر». وإذا سألته هل كنت ناصرياً إذاً؟ يجيبك سليمان «كنت في الفضاء الناصري».
طيّب، هل كنت شيوعياً؟ كان مندفع المشاعر تجاه الماركسيّة، لكنّه لم ينتسب إلى الحزب الشيوعي. عيّن نبيل مدرِّساً للغة العربية في الرقّة سنة 1969. هناك أحاط به عدد من الأصدقاء الشيوعيين الذي أثّروا فيه حتى حملت كتاباته نفَساً ماركسيّاً، جعلت من «كتبة التقارير يظنّونني عضواً في هذا الشقّ أو ذاك». صداقته التاريخية مع بوعلي ياسين القادم من «كومونة فرانكفورت» والحركة الطلابية سنة 1968، أي من الموقف النقدي الماركسي من كل شيء، عزّزت لدى سليمان الزهد في التنظيمات، والميل إلى اتخاذ موقف نقدي من كل شيء.
هذه الصداقة والقرب من الكاتب السوري بوعلي ياسين دفعا بالاثنين إلى وضع كتابهما المشترك «الأيديولوجيا والأدب في سورية» (دار ابن خلدون)، وفيما «ظل بوعلي ياسين متمسّكاً بكل ما وضع من أفكار في هذا الكتاب، أعلن نبيل سليمان العديد من المرات تجاوزه لهذا الكتاب شكلاً ومضموناً»، يقول صديقهما المشترك الشاعر منذر المصري الذي يصف سليمان بـ «الإشكالي». يقول المصري: «يمثّل نبيل حالة إشكالية، ليس سهلاً توصيفها، فما بالك بتحديدها وتكثيفها بشهادة؟».
وإن كان الصديقان قد تباعدا، بحسب منذر المصري، فإنّهما خاضا معاً مغامرة الرحيل إلى بيروت في ربيع 1979 تاركَين وراءهما أسرتين، راكضَين خلف الحلم بالعيش في «الفضاء الفلسطيني اللبناني، وفضاء الثورة والحرب الأهلية اللاهبة». هناك، التقى الكاتبان أمثال مهدي عامل ويمنى العيد وماجد أبو شرار وجورج طرابيشي وسعد الله ونّوس وغيرهم، والتقيا كذلك سليمان صبح الذي أسّس «دار ابن رشد» وذاع صيتها سريعاً، ووضع ياسين وسليمان كتاباً آخر مشتركاً ونشراه لدى الدار بعنوان «معارك ثقافية في سورية».
كان سليمان قد بدأ الكتابة روائياً قبل أن يتجه إلى النقد. خيار الكتابة أو «خيار الحياة» اتضح جدّياً لديه منذ 1969، حين كتب «ينداح الطوفان» التي نُشرت بعد عام من كتابتها. هي ليست رواية عن الهزيمة أو الحرب. وفي ذلك، يكون سليمان مختلفاً عن أبناء جيله الروائيين الذي يقال «إنّ هزيمة 67 قصمته ولم تجبّره انتصارات 73». لقد اكتفى صاحب «ثلج الصيف» بالإشارة إلى الهزيمة عبر كتابة إهداء على عمله هذا «إلى 5 حزيران عرفاناً بالجميل». ثم أتبعها بـ«هزائم مبكرة» (1985) التي تروي مسلسل الهزائم الذي لا يغفل عن بطولات هنا وهناك ويقاربها روائياً «اقتراناً بهزائم على المستوى الشخصي الروحي».
هزائمه القديمة التي اقترنت بزواج والده بامرأة أخرى، وهجر أمه وإخوته وإرسالهم للعيش بعيداً كي يظلّ مع زوجته الشابة، تركت جروحاً وقروحاً ربما لم تبرأ حتى الآن لدى الكاتب، الذي ما زال يتحدث عن تلك المرحلة بألم. أمّا التنوع الثقافي الذي يتضح في شخصيات رواياته، فمصدره التنقّل المبكر بين الأمكنة: إنه مولود في صافيتا سنة 1945 ودرس الأدب العربي في جامعة دمشق وتخرج سنة 1967. وكان يسافر مراهقاً مع والده ليعيش فترات بين عامودا البلدة الكردية ثم منطقة الجزيرة، ثم عاش في قرية شركسية في عين صاف، إلى أن انتقل إلى الدريكيش. «هذا الخليط من بيئة كردية إلى مسيحية إلى شركسية علوية وسنّية جبلني تعددياً، وانفتاحياً وحوارياً». هكذا هي عوالم رواياته متعددة وجدليّة.
وقد بات معروفاً أنّ مشروع نبيل سليمان الأكبر هو روايته «مدارات الشرق» التي يقول عنها «صرت أصدق أنّ في حياة كل كاتب مشروع العمر الذي يكتب مرة واحدة ولا يتكرر».
جاءت هذه الرواية بعد عمله «قيس يبكي»، فشرع في كتابة كتلة من أكثر من ألف صفحة كانت نتاجاً لعمل 15 ساعة يومياً صيفاً وشتاءً، حتى أنجز «الكتلة الأولى» بعد ستة شهور، ثم تابع العمل حتى بلغ 2400 صفحة. وفي العمل، حفر في ما عاشته البلاد في النصف الأول من القرن العشرين بالبعدين الشامي والشرقي. «قد يبدو الأمر على السطح بأنه يتعلق بالأتراك أو الإنكليز. لكن السؤال الذي كان يشغلني هو: هل الجمهورية عميقة وأصيلة فينا؟ كما أظن أنّ فكرة الديموقراطية ليست أصيلة ولا عميقة رغم كل ما نعتدّ به من زوايا مضيئة في التاريخ».
حاول سليمان في «مدارات الشرق» أن يبحث في أسس التيارات الماركسية والقومية والإسلامية، ويتأمل نشأتها وما آلت فيه في القرن العشرين من دمار على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية والوطنيّة والمؤسساتيّة. لكن ألم يكن لأي مؤرخ أن يقوم بهذا العمل على نحو أفضل من الروائي؟ هنا تأتي تلك التجربة الغاضبة، تجربة اللذة الغاضبة؛ «الكتابة بلا أي حساب للخبرة الفنية وللرقيب التاريخي والسياسي، تجربة من الحرية. أظن أنها عجنت كل الحمولة التاريخية والفكرية التي في «مدرات الشرق»، واقترحت شكلاً يبدو للوهلة الأولى كلاسيكياً». في هذه الرواية وبحسب الكاتب نفسه، ثمة تجربة خاصة في بناء الزمان الممتد عبر 65 سنة، بُني على شكل موجات... وهذا المقترح الجمالي في «مدارات الشرق» هو إضافتها الأهم من محاولتها تصوير ما كان عليه أمر النفط في الثلاثينيات في سوريا والعراق، وما وصل إليه مع بدء الانقلابات العسكرية عام 1948.
أمّا مشروعه كناشر، فتجلّى في «دار الحوار» التي أسسها سنة 1982، وانصرف إليها انصرافاً كاملاً بدل عمله في التدريس. يقول عنها منذر المصري «أرادَ أن يخرج من حالة الهزائم المبكرة التي بدأ بها حياته وجعلها عنوان إحدى رواياته، إلى حالة الانتصارات المتأخرة، ويكون صاحب مشروع ثقافي متكامل».
في بداية الثمانينيات، بنى قصراً في قرية البودي التي تقع على بُعد عشرين كيلومتراً من جبلة وترتفع 600 متر عن البحر مطلةً على شواطئ بانياس إلى اللاذقية، ونقل مكتبته إلى هناك: «أعيش فيها عزلتي من عام 1987 متفرغاً للقراءة والكتابة. ولا يعرف لذة القراءة والكتابة إلا المتفرغ». ونبيل سليمان يعرف هذه اللذة من 1982 حتى اللحظة.

                                                                                                                                                                                                              نوال العلي



5 تواريخ

1945
الولادة في صافيتا (سوريا)

1970
أصدر روايته الأولى «ينداح الطوفان» (دار الأجيال)

1979
سافر مع صديقه بوعلي ياسين إلى بيروت وانخرط في تجارب المرحلة، داخل الأجواء الفلسطينية ــــ اللبنانية

1990
أصدر الجزء الأول من «مدارات الشرق» عن داره «الحوار للنشر» التي أسّسها في دمشق عام 1982

2009
يعمل حالياً على نص جديد، بعد سنتين من صدور روايته «دلعون». وكان في العام الماضي قد أثار سجالاً بعد هجومه على الرواية الجديدة خلال مؤتمر الرواية العربية في دمشق والمؤتمر الأول للرواية في عمّان

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.