تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

بوريس باسترناك (1890 – 1960)

ولد الأديب والشاعر والمترجم "بوريس ليونيدوفيدش باسترناك" في موسكو كبرى مدن الإمبراطورية القيصرية عام 1890 لعائلة تعد من نخبة مجتمع المثقفين والمبدعين الروس، فكان والده "ليونيد" واحداً من أشهر رسامي روسيا وبروفيسوراً في مدرسة موسكو للرسم والنحت والعمارة، بينما كانت والدته "روزا كوفمان" عازفة بيانو مرموقة، وكان منزلهم يستضيف كبار مبدعي روسيا والعالم في ذلك العصر أمثال الموسيقار "سيرغي رخمانينوف" والموسيقي والمتصوف           "إلكسندر سكريابين" والفيلسوف الوجودي "ليف شيستوف" والشاعر النمساوي "راينر ماريا ريلكه".

لكن الرابطة الأقوى التي ربطت عائلة باسترناك كانت مع عملاق الأدب الروسي "ليف تولستوي"، الذي كان الأب ليونيد يرسم الصور المصاحبة لرواياته المطبوعة، وكان تولستوي معتاداً على زيارة منزل الأسرة للتأكد من مطابقة رسوم باسترناك لروح رواياته، وقد حاز ليونيد باسترناك على جائزة معرض باريس العالمي عام 1900 لرسوماته المرافقة لروايات تولستوي.

روح تولستوي وفلسفته كانت العبق الذي يضوح في منزل عائلة باسترناك، وقد أدى التأثير العميق لتولستوي على العائلة لتحول والدي باسترناك من الديانة اليهودية إلى المسيحية بحسب كنيسة تولستوي الإنسانية قبل ولادة بوريس ببضع سنوات.

هذا الجو الثقافي والإبداعي والفلسفي الرفيع الذي نشأ فيه بوريس جعل من المحتم عليه أن يختار أحد المجالات الإبداعية كتخصص لحياته، فاختار الموسيقى أولاً متأثراً سكرايبن والتحق بمعهد العالي للموسيقا (الكونسرفاتوار) لموسكو، لكنه سرعان ما تخلى عن الموسيقى للفلسفة حيث درسها في الجامعة الألمانية بماربورغ حيث درس الفلسفة الكانطية الجديدة، لكن قصة حب فاشلة عاشها في الجامعة مع إيدا فيستوسكايا ابنة أحد تجار روسيا الأثرياء هي التي دفعته أخيراً إلى الشعر وامتهان الأدب وألهمت بشكل كبير ديوانه الشعر الأول "التعامل الآمن".

عاد باسترناك إلى روسيا مع انطلاق الحرب العالمية الأولى وعمل في مصنع للكيمياويات في مدينة برم الروسية، ومع اندلاع ثورة أوكتوبر البلشفية في روسيا لم يغادر بوريس باسترناك وطنه الأم كما فعلت عائلته والعديد من أصدقائه بل بقي في موسكو وعانى من السنوات القاسية التي شهدتها روسيا خلال السنوات الأولى من عمر الثورة والحرب الأهلية التي تلتها، وحاول الاستمرار في الكتابة والنشر، لكن الأوضاع الاقتصادية الصعبة جعلت من هذا الأمر شبه مستحيل بحلول عام 1918، واضطر إلى بيع كتبه النفيسة لتأمين لقمة العيش، كما قام بتوزيع كتابه الشعري "حياة أختي" على المقاهي الأدبية التي انتشرت في موسكو على شكل مخطوط، ولم يتمكن من نشره مطبوعاً إلى بعد ثلاث سنوات عام 1921، وقد ترك هذا الديوان أثراً ثورياً على الشعر الروسي أعاد صياغته بشكل كبير.

ونشر باسترناك بعده عدة قصائد في العقد الثالث من القرن العشرين تميزت بروح النساك، لكن مع وصول ستالين إلى السلطة تحول إلى الواقعية الاشتراكية حيث نظم قصيدتين ملحميتين عن ثورة عام 1905 بعد الحرب الروسية – اليابانية كما تحول إلى النثر حيث ألف كتابين يحملان طابع السيرة الذاتية هما "طفولة اللوفر" و"التعامل الآمن".

لكن سرعان ما تحول اهتمام باسترناك إلى الترجمة ربما رداً على النقد اللاذع الذي تعرضت له أعماله التالية المنتمية إلى الواقعية الاشتراكية فترجم أعمال كبار شعراء وأدباء أوروبا والعالم أمثال شكسبير وغوته وريلكه وطاغور إلى اللغة الروسية، كما ترجم أشعار بلاد الفقفاس الفلكلورية أيضاً، وتميزت ترجمته بلمسة خاصة حيث اعتبر أن الترجمة ليست فقط نقلاً من لغة إلى لغة ولكن أيضاً عملية نقل من روح إلى روح فعاد ونفخ الروح الروسية في أعمال شكسبير (هاملت، ماكبث، الملك لير) بشكل خاص مما جعلها الترجمة الأكثر رواجاً وقبولاً في روسيا إلى يومنا هذا، رغم أن مذهبه هذا في الترجمة لم يخل من وجود نقاد له.

تعرض باسترناك إلى المضايقات والملاحقات خلال عهود التطهير التي عرفها حكم ستالين، بل تم وضعه اسمه عدة مرات على قائمة الأشخاص الذين سيرحلون إلى معسكرات الاعتقال ووضع اسمه مرة على قائمة الإعدامات، لكن ستالين الذي كانت تربط بينه وبين باسترناك صداقة بالمراسلة وتبادل التهاني قام بشطب اسمه عندما عرضت القوائم عليه وقال للمسؤولين: "دعوا قاطن السحاب هذا وشأنه".

عندما وصلت الحرب العالمية الثانية إلى الاتحاد السوفيتي (والتي أصبحت تعرف هناك باسم الحرب الوطنية العظمى) وتعرضت موسكو للقصف من طائرات ألمانيا النازية رفض باسترناك مغادرتها بل وتطوع في فرق الدفاع المدني الشعبية، وساهم في إطفاء الحرائق ورفع القنابل غير المنفجرة من المباني، وأمام إصراره وإلحاحه سمح له بالذهاب إلى الجبهة، حيث قام بالعناية بالجرحى، وقرأ لهم القصائد في المستشفيات وشارك الجنود مسيراتهم وتحدث معهم وألهب حماستهم من أجل القتال فداءاً للوطن. لكن عبر عن سخطه بعد الانتصار في الحرب للمعاملة التي تعرضت لها قوميات بأكملها بالإضافة إلى الأسرى الروس من قبل السلطات السوفيتية بتهمة التعامل مع الغزاة الألمان.

أنهى باسترناك روايته "دكتور زيفاكو" عام 1957، وتدور الرواية حول دكتور يوري زيفاكو (والذي يعني اسمه زيفاكو بالروسية الحياة) وقصة حبه لامرأتين زوجته تونيا غروميكو وعشيقته لارا انتيبوف في جو مرتبط بآخر أيام حكم القياصرة وأول أيام الحكم البلشفي وفيها وصف مفصل لفظاعات الحرب الأهلية والمجازر التي ارتكبها البلاشفة الحمر وقوات القياصرة البيض.

لم تقبل السلطات السوفيتية بنشر الرواية فعمد باسترناك إلى تهريبها إلى إيطاليا حيث صدر الطبعة الأولى منها باللغة الإيطالية عن دار نشر لأحد أعضاء الحزب الشيوعي الإيطالي عام 1958، وسرعان ما تلتها طبعة باللغة الإنكليزية احتلت صدارة قائمة أكثر الروايات مبيعاً في الولايات المتحدة لستة أشهر، وتم الإعلان عن فوز بوريس باسترناك بجائزة نوبل للآداب في ذلك العام، لكنه أرسل برقية إلى الأكاديمية الملكية السويدية يعلن رفضه للجائزة، ولم تنشر الرواية في الاتحاد السوفيتي حتى العام 1987.

وحولت رواية دكتور زيفاكو إلى فيلم سينمائي شهير من إخراج البريطاني ديفيد لين وبطولة الممثل العالمي المصري عمر الشريف وجيرالدين شابلن ابنة النجم شارلي شابلن وجولي كريستي عام 1965، ويعد هذا الفيلم ثامن أنجح فيلم في تاريخ السينما حتى يومنا هذا، كما تم تحويله عدة مرات إلى مسلسل تلفزيوني آخرها كان نسخة روسية عام 2006.

توفي بوريس باسترناك في منزله الريفي داشا قرب موسكو في 30 أيار 1960 وشارك في جنازته الآلاف من محبيه الذين أتوا من كافة أنحاء روسيا.

ونختم بإحدى أشهر عبارات المبدع بوريس باسترناك: "ولد الإنسان ليعيش، لا لكي يستعد للعيش".

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.