تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عمر الخيام (1040 - 1121)

لطالما اهتزت مشاعر عشاق الموسيقى والغناء والطرب الأصيل عند سماع السيدة أم كلثوم وهي تصدح "أطفىء لظى القلب بشهد الرضاب... فإنما الأيام مثل السحاب"، ولم يكن الصوت الفريد لكوكب الشرق هو السبب الوحيد في تحرك وجدان السامعين، بل ساهمت المعاني العميقة والفكرة المركزة لكلمات الأغنية في ذلك، ولا عجب في هذا إذا علمنا أن مؤلف هذه الكلمات هو أحد أهم العقول المفكرة والمبدعة التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية عمر الخيام.

ولد غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام في مدينة نيسابور (تقع في أقصى شرق إيران قرب مدينة مشهد- طوس سابقاً) عام 1040 للميلاد، لوالد كان يعمل في صناعة الخيام ومن هنا جاء اسم العائلة الخيام.

كانت مدينة نيسابور في تلك الفترة تعيش إحدى أزهى عصورها حيث كانت عاصمة "خراسان وبلاد العجم" التي كانت خاضعة للبويهيين الديلم في بادئ الأمر ومن ثم للسلاجقة الأتراك فيما بعد، وقد عمد حكامها المتعاقبون على دعوة العلماء من شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي للتعليم فيها، كما احتضن بلاطهم كبار الشعراء والمفكرين، حتى أضحت نيسابور لا تقل في تلك الفترة عن الحواضر الثقافية الأخرى مثل بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة.

نشأ عمر وتلقى تعليمه في "نيسابور" ولم يكتفي بما حصل عليه من العلم في تلك الحاضرة بل ظل يتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل بخاري وسمرقند وبلخ وأصفهان رغبة منه في التزود من العلم وتبادل الأفكار مع العلماء، وقد زار في أحد رحلاته مدينة بغداد كما قام بالحج وزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة.

وقد برع الخيام بشكل خاص بالرياضيات وبخاصة حساب المثلثات والجبر والمقابلة، فكان هو أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جبرية من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، وهو أول من أستخدم الكلمة العربية "شي" التي رسمت في الكتب العلمية الإسبانية (Xay) وما لبثت أن استبدلت بالتدريج بالحرف الأول منها "x" الذي أصبح رمزاً عالمياً للعدد المجهول، كما استطاع حلَّ معادلات الدرجة الثانية بطرق هندسية وجبرية. ونظم المعادلات وحاول حلها كلها، ووصل إلى حلول هندسية جزئية لمعظمها. وقد بحث في نظريات الهندسة والجبر المتعددة وألف عدداً من الكتب والرسائل فيها باللغتين العربية والفارسية وقد وصل إلينا منها كتابه "شرح ما أشكل من مصادرات كتاب أقليدس" في الهندسة.

كما برع عمر الخيام بالكيمياء حيث استطاع إيجاد طريقة كيمائية رياضية من اجل نسبة المكونات سبائك المعادن، وبالأخص نسبة الفضة إلى الذهب في السبائك، وقد شرح طريقته هذه في كتابه "الاحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهما" والذي قدم فيه طريقة لاحتساب الكثافة النوعية للمعادن، وتعد من أدق الطرق الكيمائية التي تم اختراعها لحساب نسبة معدن في سبيكة.

أما الشهرة الكبيرة التي نالها الخيام في زمانه فكانت بسبب تميزه في علم الفلك ومراقبة النجوم، هذا العلم الذي كان مرتبطاً عند الناس في تلك الفترة بكشف الغيب ومعرفة المستقبل والتنجيم، فكان أن تقاطر الناس كباراً وصغاراً على الخيام لمعرفة مستقبلهم وبدء صيته يعلو ويعلو حتى وصل إلى مسامع السلطان ملكشاه ثالث سلاطين السلاجقة الذي استدعاه وعينه منجمه الخاص وبنى له مرصداً فلكياً في نيسابور، كما أمره بإصلاح التقويم الفارسي، وهو تقويم فريد من نوعه يعتمد هجرة النبي محمد كبداية للتاريخ مثل التاريخ الهجري، لكنه يعتمد السنة الشمسية وليس السنة القمرية في حساب السنين مثل التقويم الميلادي، وكما التقويم الجولياني فقد كان التقويم الفارسي قبل الخيام يعتمد السنة 365 يوماً كاملاً ولا يأخذ بأجزاء اليوم مما أدى إلى انزياح فصول السنة وكان على المنجمين إعادة تعيين بداية السنة (النيروز) ومنتصف الصيف (المهرجان) كل فترة، إلى أن أتى عمر الخيام وأصلح التقويم وأعاد حساب السنة الشمسية بشكل أدق من الإصلاح الغريغوري الذي شهدته أوروبا بعده بعدة قرون، وما زال التقويم الذي وضعه عمر الخيام هو المستعمل إلى يومنا هذا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعدد من دول آسيا الوسطى.

أما في العلوم الإنسانية والفلسفة فقد كتب عمر الخيام «رسالة في الكون والتكليف» بالعربية، و«الرسالة الأولى في الوجود أو الضياء العقلي»، و«رسالة في الوجود»، و«رسالة في كلية الوجود» بالفارسية، هذا بالإضافة إلى شغفه الكبير بالرباعيات (وهي تعرف باسم الدوبيت بالفارسية)، والتي كانت قبله موضع سخرية من الشعراء ويعتبرونها شعراً غير رصين لصغر أبياتها، حيث كان التحدي في إيصال فكرة ما من ضمن أقل عدد ممكن من الكلمات مما يعطي الفكرة تركيزاً وعمقاً كبيرين، يناسب الطبيعة الصوفية واستخدام الخيام للرمزية، حيث يلخص الخيام حياته الطويلة ورحلة عمره في  رابعة واحدة فقط:

أفنيتُ عمري في اكتناه القضـاء          وكشف ما يحجبـه في الخـفاء

فلم أجـد أسـراره وانقضـى             عمري وأحسست دبيب الفـناء

والرباعيات هي عبارة عن مقطعات من أربعة أشطار، الشطر الثالث مطلق بينما الثلاثة الأخرى مقيدة، ورغم أن العرب عرفوا الرباعيات، إلا أنها كانت مفضلة أكثر عند شعراء الفرس الذين كانوا يكتبونها بالفارسية ونادراً ما كتبوا منها بالعربية حتى ولو كانت بقية مؤلفاتهم فيها.

وكان الخيام في أوقات فراغه يتغنى برباعيات في خلوته، وقد نشرها عنه من سمعها من أصدقائه، وبعد عدة ترجمات وصلت لنا كما نعرفها

وفي سنوات عهد الانحطاط الذي بدأ في القرن التالي لوفاة عمر الخيام وخاصة مع الغزو المغولي وتدمير مراكز حضارية عربية وإسلامية كبيرة من بينها بغداد ونيسابور فقد فسر الجيل التالي فلسفة الخيام  وتصوّفه على أنه إلحاد وزندقة وتم بالفعل إحراق العديد من كتبه، ولم يقم أحد بجمع الرباعيات التي ألفها، والتي بقيت تناقلها الناس شفوياً دونما تسجيلها، بالإضافة إلى محاولة العديد من الناس نسب الرباعيات التي ألفوها إلى عمر الخيام من أجل أن تحظى بالشهرة والانتشار، وقد أدت هذه العوامل إلى اختلاف كبير في عدد هذه الرباعيات حيث يتجاوز التعداد الذي تقدمه العديد من المؤسسات المعنية بالموضوع ما بين 10 رباعيات وصولاً إلى 1300 رباعية تم جمعها صدور الكتب المطبوعة بعد وفاة الخيام بقرابة ثلاثة قرون ونصف، فأوّل كتاب خصص لجمع رباعيات الخيام ظهر سنة 1478، أي بعد رحيله بثلاثة قرون ونصف، وأوّل ترجمة للرباعيات كانت للغة الإنجليزية، وظهرت سنة 1859 الأمريكي فيتزجيرالد، أما الترجمة العربية من الفارسية فقام بها الشاعر المصري أحمد رامي، وهناك ترجمة للشاعر العراقي نزيل دمشق أحمد الصافي النجفي.

وأحاطت الأساطير بحياة عمر الخيام وأشهرها الأسطورة التي تقول أنه صادق في شبابه وصباه كل من الخوجا حسن (الذي أصبح فيما بعد نظام الملك وزير السلاطنة السلاجقة الشهير) وحسن علي الصباح (المفكر والداعية الإسماعيلي النزاري الشهير الذي أسس فرقة دينية شهيرة مركزها قلعة آلموت على شاطئ بحر قزوين وامتدت في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه من حدود الصين إلى بلاد الشام)، وقد تعاهد الخلان الثلاثة وفق الأسطورة أن يدعم من يحالفه الحظ منهم صديقيه الباقيين، فلما أصبح صديقه نظام الملك وزيراً للسلطان "ألب أرسلان"، ثم لابنه "ملكشاه"، خصص له راتباً سنوياً، وقدمه إلى السلطان ملكشاه الذي عينه المنجم الخاص للسلطان، وأعطاه الأموال اللازمة لبناء مرصده الشهير في نيسابور.

وقد ألهبت هذه الأسطورة خيال الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف، فأصدر رواية "سمرقند" التي تستلهم حياة عمر الخيام وأصدقائه وأسقطها على التاريخ المعاصر لإيران خاصة في نهاية عهد القاجار وإعلان الجمهورية الأولى عام 1905، كما انتج مسلسل سوري من ثلاثين حلقة من إخراج التونسي شوقي الماجري عام 2002، أعيد عرضه مؤخراً.

مختتمين بإحدى رباعيات عمر الخيام الشهيرة

 لبستُ ثوب العمر لـم أُسْتَشَـرْ                  وحرت فيه بيـن شتّـى الفكـر

وسوف أنضو الثوب عني ولـم                  أدركْ لمـاذا جئـتُ أيـن المقـر

لـم يبرح الداء فؤادي العليـل                   ولـم أنل قصدي وحان الرحيـل

وفـات عمـري وأنا جاهـل                    كتاب هذا العمر حسم الـفصول

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.