تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

خفايا صياغة القوانين في سورية

20-07-2011



 

 

 

 


صحيفة تشرين

 

بعد أيام فقط على صدور قانون الغش والتدليس للعام 2001 اكتشفنا بعد بدء التطبيق أنّه بحاجة للتعديل، وبعد أيام على قرار رفع سعر الفيول اكتشفنا أنّه كذلك غير قابل للتطبيق وتراجعت الحكومة عنه، وبعد شهر ونصف تقريباً على صدور قانون الشركات في سورية عام 2008 اكتشفنا كذلك أنّه بحاجة للتعديل، وبعد أشهر على قانون التجارة وقانون المصارف الخاصة والإسلامية اكتشفنا أنّهما بحاجة للتعديل هي الأخرى.

 

وبعد أيام على صدور قانون المحاكمات اكتشفنا أيضاً حاجته للتعديل، وبعد أشهر على صدور قرار فرض اسم المستورد على العبوات المستوردة اكتشفنا استحالة تطبيقه بالصيغة الواردة فقررنا التعديل. ‏



وفي عام واحد جرى تعديل قانون السرية المصرفية ثلاث مرات، وبعد سنوات على صدور قانون رسم الإنفاق الاستهلاكي اكتشفنا أنّه بهذه الصيغة يخدم التجار ويضر المستهلك فقررنا تعديله أيضاً، وبعد سنوات على صدور قانون مكاتب التشغيل اعترفت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بأنّه كان تجربة فاشلة وأنّه بحاجة للإلغاء، وبعد سنوات على رفع أسعار المازوت اعترفنا أنّه كان قاسياً وغير متلائم مع التطبيق. ‏

 

وغيرها الكثير من القوانين والقرارات التي تراجعنا عنها بكل وضوح، فقررنا إلغاءها أو تعديلها، ببساطة لأننا فوجئنا بما لم نكن نحسب حساباً له عند التطبيق. ‏

 

 

تجربة عالمية ‏

 

قبل سنوات وتحديداً في العام 2006 استدعت الحكومة السورية خبيراً من رومانيا، ليحل لهم هذه المشكلة. ‏

 

لماذا رومانيا؟ لأنّها بلد تشبهنا- بحسب رأي الحكومة آنذاك- فقد انتقل هذا البلد من اقتصاد مركزي مخطط إلى اقتصاد السوق، ومع ذلك فقد حقق هذا البلد تقدماً جيداً في التشريعات. ‏

 

المذكرة التي قدمها الخبير والتي لانزال نحتفظ بنسخة منها حتى الآن، ذكرت شيئاً لم نكن على علم به اسمه «تقييم الأثر التشريعي»، وهذا المعيار الذي قررته الحكومة الرومانية هو شرط من شروط العمل تحت سقف الاتحاد الأوروبي، حيث يفرض بكل بساطة على كل وزارة أو لجنة متخصصة بصياغة تشريع معيّن أنّ تقدّم معه دراسة منفصلة تسمّى «دراسة تقييم الأثر التشريعي لهذا القانون»، ولا يقبل أي مشروع قانون ما لم يكن مرفقاً بهذه الدراسة. ‏

 

تماماً كما تفرض قوانين العالم ومنها قوانيننا عدم الترخيص لأية منشأة صناعية ما لم تكن الدراسة مرفقة بدراسة لتقييم الأثر البيئي، تبيّن مدى ملاءمة المنطقة التي ستقام المنشأة فيها والأضرار المحتملة، ورأي السكان المجاورين وغير ذلك، كذلك تفرض دراسة تقييم الأثر التشريعي على معدّي مشروع القانون القيام بدراسة ميدانية على عينة من المواطنين المستهدفين بالقانون قبل صدوره والقيام بتجارب عملية على تطبيقه واكتشاف الثغرات التي قد تطرأ. ‏

 

لم تأخذ حكومتنا السابقة بهذا الاقتراح، رغم أنني شخصياً ذكّرت وناقشت النائب الاقتصادي السابق بهذا المقترح، ورغم أنّ الخبراء الذين التقيناهم في هذا التحقيق يتحدثون عن اقتراحات وطرق مشابهة وأخرى مختلفة ويكشفون خفايا صياغة القوانين كما كانت تجري وربما مازالت. ‏

 

بكل جرأة ‏

 

كيف تجري صناعة القوانين في سورية؟ ‏

 

المحامي أحمد حاج سليمان- رئيس فرع نقابة المحامين في حلب ومقرر لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس الشعب يقول لنا: «موضوع نضج التشريعات وتلافي الثغرات في التشريعات مسألة على غاية في الأهمية، وأنا أقول بكل جرأة: إن المشكلة تكمن بمن يعد مشروع القانون سواءً المقدم من قبل الحكومة أو من قبل رئاسة الجمهورية أو المقترح من بعض أعضاء مجلس الشعب». ‏

 

ويضيف: «أمام تطور الحياة وتشعب المصالح والاهتمامات ونظراً لوجود جمود في بعض المرافق ووجود تشريعات لم تعد تلبي المصالح، ما يوجب ضرورة إعادة النظر في الطريقة المتبعة وإيجاد مواءمة بين التشريع من خلال التوازن بين المصالح والأهداف، للوصول إلى تشريع ناضج وقابل للحياة. على اللجنة المتخصصة أن تدرس أبعاد التشريع لأهدافه الآنية والمستقبلية وليس فقط الآنية، لذا فإنّه يحتاج لاختصاصيين يعرفون بالواقع الذي يتناوله التشريع إضافة إلى قانونيين يجنبونه الأخطاء القانونية، ثم يعرض على مجلس الشعب، وهنا يأتي دور المجلس في دراسته بالكامل ومدى مواءمته للدستور وللتشريعات ذات الصلة ومدى انسجامه مع أسبابه الموجبة. ‏

 

ويفترض أن يكون المرجع في تفسير أية مادة قانونية هي المداولات التي تجري في مجلس الشعب حول القانون لأنّها تزيل اللبس حول أي نقطة من خلال المداولات التي تدور حوله». ‏

 

ويقول: «عملياً لا تقوم هذه المداولات بدورها وأنا أقول هذا كعضو لمجلس الشعب وكمقرر للجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، ولهذا الواقع أسبابه منها أنّ كثيراً من التشريعات تأتي إلى المجلس في وقت متأخر قبل النقاش ولا يتاح الوقت الكافي للاطلاع عليها، واعتماد أعضاء مجلس الشعب على رأي القانونيين من أعضاء لجنة الشؤون الدستورية والقانونية وعدم اهتمامهم بتفنيد القانون المقترح هذا مع حضور البعض وليس الكل للجلسات. ‏

 

كما أن جزءاً كبيراً من السلطة التنفيذية التي تأتي للدفاع عن مشروعها تكون غير مؤهلة وضعيفة، وأحياناً تصدر تعليمات تنفيذية تتناقض مع القانون وفيها سيف الوزير مسلطاً، ولايستطيعون تجاوز تعليماته، ما يعطل التشريعات لحساب تعليمات الوزير». ‏

 

لجنة الوزير ‏

 

طرق أشبه بالارتجالية تحصل عند صياغة كثير من القوانين يوضّحها المحامي والمستشار القانوني سامر سلطان بقوله: « بعد أن أصبحت الصياغة التشريعية علماً له أصوله وأسسه ومنهجيته تدرس كأحد الاختصاصات القانونية التي تجعل ممن يتمتع بها قادراً على وضع حلول تشريعية بصياغة واضحة وفعالة تحقق الغاية المرجوة بمعايير عالمية بغض النظر عن الموضوع المراد تنظيمه سواء تعلق بالهندسة أو الفن أو التجارة أو فض النزاعات، لم تترك الدول التي قررت إجراء تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية تنموية الصياغة التشريعية للهواة وعابري السبيل. ‏

 

أما في سورية، ولعدم وجود مؤسسات وكوادر صياغة تشريعات، غالباً يقوم الوزراء بتشكيل لجان تطوعية خاصة لكل مشروع قانون يتراوح عددها من عشرة إلى عشرين عضواً، ويختلف تشكيل أعضاء اللجنة في الوزارة الواحدة حسب مشروع القانون دون وجود معايير محددة لاختيار أعضاء اللجان سوى أنهم من ذوي الاختصاص في موضوع التشريع أو قانونيين حائزين على مؤهل علمي عال أو معنيين بالقانون بشكل أو بآخر. ‏

 

وفي أحسن الأحوال يقوم بعض أعضاء اللجنة بطرح مشروع تشريع منسوخ من دولة عربية أخرى تختلف بيئتها وظروفها والمشكلة المطلوب حلها عنها في سورية، يتداوله ويناقشه الأعضاء لسنوات عديدة استناداً إلى المعلومات الشخصية والتجارب الخاصة لكل منهم دون اتفاق على قواعد وصيغ مشروع التشريع وإنما يهيمن بعض أعضاء اللجنة على جلسات المناقشة ويفرض آراءه بالاستناد إلى مرتبته العلمية أو مركزه الوظيفي. ‏

 

وبعد إنجاز اللجنة لمهامها قد يطلب الوزير المعني من صديق يثق بخبرته مراجعة مشروع التشريع، فيُدخل الأخير تعديلات بشكل مجتزأ دون معرفة التفاصيل التي دعت اللجنة إلى الموافقة على مشروع التشريع. ‏

 

ويمر بعد ذلك مشروع التشريع في مجلس الوزراء بطريقه إما إلى مجلس الشعب حيث يناقشه أعضاء اللجان الخاصة أو تحت القبة، أو يأخذ المشروع الطريق المختصر إلى رئاسة الجمهورية لإصداره بمرسوم تشريعي، حيث تُدخل التعديلات التي تناسب رؤيتهم أو في بعض الأحيان مصالحهم، فيصدر التشريع كلوحة موزاييك مختلفة الألوان والأشكال والقياسات. ‏

 

وعلى أية حال فإن أياً من أعضاء اللجان أو رجال السياسة الذين يعدون مشاريع التشريعات أو يُدخلون تعديلات عليها لا يتمتعون بمهارات الصياغة وأصولها بما يمكنهم من إعداد أو مراجعة مشروع تشريع فعال يحقق الغاية المرجوة. ‏

 

ولذلك نجد عند التطبيق العملي للتشريع أنه لا يحقق الغاية المرجوة أو قد يناقض تماماً ما أراد واضعوه منه أو تتعارض أحكامه فيما بينها أو مع تشريع نافذ آخر أو يكتنف على أخطاء في الشكل والمضمون تتطلب مراجعته بعد فترة وجيزة من صدوره ما يؤثر على استقرار المراكز القانونية ويفقد المتعاملين الثقة في شؤونهم المستقبلية». ‏

 

ترجمة حرفية ‏

 

والمؤسف من وجهة نظر المحامي جهاد اللحام -رئيس فرع نقابة المحامين في دمشق أنّ بعض التشريعات المهمة والملتصقة بحياة الناس، تبدأ بترجمة حرفية لقوانين عالمية أو عربية، بما تحمله من أخطاء لغوية أحياناً، رغم اختلاف البيئة والخصوصية التي يمتاز بها هذا البلد أو ذاك. ‏

 

ويضيف: «القانون المقترح قد تكون له ارتباطات مع قوانين أخرى تتعارض أو تتكامل معها، لكن عدم توفر الأتمتة التي تتيح للجنة الصياغة المقارنة والمواءمة مع التشريعات القائمة، تجعل اللجنة في غياب تام عن الواقع وما يمكن أن ينتج عن التطبيق، ثم تأتي مرحلة عرض المشروع على مجلس الشعب، وهنا تأتي التدخلات من قبل الحكومة في محاولة منها للاستعجال بتمرير القانون، فيجري وللأسف أحياناً إيحاء مباشر أو غير مباشر من قبل الحكومة بأنّ هذه المشروع مطلوب تمريره بسرعة بناء على توجيه من القيادة، بينما لايكون هذا الإيحاء صحيحاً، ولم يكن الهدف منه سوى تمرير القانون دون الاستفاضة في نقاشه من قبل أعضاء مجلس الشعب».ويقول: «كثيراً ما تتقصد الحكومة تقديمه في وقت متأخر وضيق وتطلب من الأعضاء الاطلاع عليه ومناقشته بسرعة، وهذا ما جعلنا نسمع أكثر من مرّة عبر أعضاء مجلس الشعب أنّهم لم يتح لهم الوقت الكافي لدراسته». ‏

 

ويضرب بعض الأمثلة: «عندما نسأل: كيف تمّ تمرير قانون الإيجار عام 2001 وهو يحمل في بعض فقراته صياغات ملتبسة اضطرت لإعادة تعديله ثلاث مرات، يأتينا الجواب نفسه؟ وعندما نسأل: كيف صدر قانون أصول المحاكمات؟، بتلك الصيغة التي رفعت الرسوم القضائية إلى خمسين ضعفاً الأمر الذي حرم الفقراء وذوي الدخل المحدود من التقاضي بسبب التكاليف العالية، وأتاح التقاضي للمقتدرين فقط. يأتينا جواب مشابه، دون أن يعني هذا إخلاء أعضاء مجلس الشعب ورئيس المجلس من مسؤوليتهم». ‏

 

تحذير ‏

 

المحامي علي عبد الغني يحّذر في لقائنا معه من الاستمرار باتباع هذه الطرق في إصدار وصياغة القوانين، ويقول: «استمرار ظهور الثغرات في القوانين خطير، لأنّه يؤدّي لإضعاف ثقة الناس بالتشريعات، ويجعلها تذهب في اتجاه آخر مختلف عما استهدفته». ‏

 

ويضيف: «وهذا ماجعل الكثيرين يصفون القوانين بشكل عام بأنّها مفصّلة على قياس أناس محددين، رغم أنّ هذا الاتهام قد لايكون صحيحاً في كل الحالات، ولكن الطريقة المتبعة أدّت إلى خلق هذا الانطباع لدى الرأي العام». ‏

 

ويرى عبد الغني ضرورة عرض مشاريع القوانين على عينة من الناس الذين سيطبق عليهم هذا القانون، وعدم الاقتصار على لجنة «نخبوية»، وهذا ما يجعل برأيه دراسة الأثر التشريعي للقوانين أمراً ضرورياً، من خلال المشاركة الواسعة للمواطنين، لدرجة أنّه لم يستبعد الحاجة لإجراء استفتاء شعبي في بعض القوانين قبل صدورها مثل قوانين الجنسية والأحوال الشخصية وغيرها مما يهم عموم المواطنين. ‏

 

فريق دائم ‏

 

المحامي سامر سلطان يقترح رؤية طبقتها دول العالم بنجاح: «وقد بدا واضحاً أن أكثر دول العالم التي رغبت في تقديم تشريعات فعالة وتحقيق التنمية قد أنشأت مكتب صياغة مركزياً مختصاً وألحقته إما بالمجالس النيابية (البرلمان) أو بمجلس الوزراء. وقد كانت الغاية من هذه المكاتب إيجاد فريق دائم يتم العمل على تدريبة وتأهيله ويكتسب الخبرة العملية بالممارسة ويبقى مسؤولاً رسمياً عن الصياغة التشريعية، وقصرت دور الوزارات والإدارات والهيئات السياسية المختلفة على رسم السياسات التشريعية وإصدار تعليمات الصياغة إلى المكتب المركزي. ‏

 

وإننا لا نعني بهذا الشأن حرمان الهيئات السياسية (الوزارة ومجلس الوزراء أو مجلس الشعب أو رئاسة الجمهورية) من حق التدخل أو التعديل في مشروع التشريع إذا خالف السياسة التي رغبوا رسمها، ولكن عليهم عدم التدخل المباشر بل اللجوء إلى مكتب الصياغة المركزي للقيام بهذه التعديلات. وكما أنه لا يجوز لصاحب اللباس إجراء تعديلات بنفسه على ما قام بتفصيله وخياطته الخياط، فإنه يجب على واضعي السياسات والقائمين على العملية التشريعية اللجوء إلى الصائغين المختصين في مكتب صياغة مركزي للقيام بالتعديلات المطلوبة. ‏

 

مرحلة جديدة ‏

 

ومع اعترافه بتقصير مجلس الشعب في القيام بدوره في مناقشة القوانين كما يجب يقول مقرر اللجنة الدستورية والتشريعية المحامي أحمد حاج سليمان: «لم يتوفر المناخ الذي يسمح لعضو مجلس الشعب لممارسة دوره في التشريع والرقابة، و يفترض أن يكون لدى أعضاء مجلس الشعب القدرة على توفير مستشارين يساعدونهم لمناقشة القوانين وإظهار نقاط ضعفها، خاصة ونحن على أعتاب مرحلة جديدة يفترض أن نطور فيها الآليات وتطوير عمل عضو مجلس الشعب من مجرد بريستيج في بعض الحالات إلى دور فاعل، من خلال تفعيل دور مجلس الشعب وتطبيق مبدأ دراسة الأثر التشريعي للقوانين قبل صدورها». ‏

 

وبالنسبة لرئيس فرع نقابة المحامين في دمشق المحامي جهاد اللحام، فإنّ عرض مشاريع القوانين على موقع التشاركية لن يكون كافياً ولن يتيح للجميع تقديم مقترحاتهم، ولن يعوّض عن الحاجة لدراسة الأثر التشريعي الميداني، ويرى ضرورة وجود هيئة استشارية متخصصة بصياغة القوانين مكونة من خبراء وقانونيين يمكن أن يتعاقد معهم مجلس الشعب لمساعدتهم على القيام بهذه المهمة.

                              تحقيق: حمود المحمود -صحيفة تشرين

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.