تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الليبرالية والإسلام

                                                            
 
 

يبدو سؤال الليبرالية في الإسلام شائكاً ومعقداً تماماً كسؤال الإسلام في الليبرالية، فالتياران الفكريان ينتميان إلى منظومتين مختلفتين ويبدو سؤال المرجعية حاسماً إذ تحيل الأولى إلى الإنسان بأنماط وجوده الشخصية والاعتبارية ولا تفترض أي كلاني أو ميتافيزيقي في حاجات الإنسان الحقيقية، فيما يختار الإسلام جواباً غيبياً سماوياً لا يتطلب أكثر من الإحالة على الوحي.
ولكن المسألة ليست بهذه الصورة من التناقض فلا الليبراليون يطالبون بحياة أبيقورية ولا الإيمانيون يطالبون بكهنوت مفارق، بل يتبادل كل منهما موقع الآخر ويتداعى كل فريق للزج بنفسه في حمأة خيار زميله وذلك توكيداً على ثقافة المشترك.
في محاضرته في مركز الدراسات الإسلامية قال حسن حنفي: لقد فشلت مرتين، فشلت مرة حين حاولت أن أنتج تياراً إسلامياً داخل الطيف الماركسي، وفشلت ثانياً حين حاولت أن أوجد تياراً ماركسياً داخل الطيف الإسلامي، ولم يقل بعد ذلك ما توقعنا أن نسمعه بعد مثل هذه التصريحات: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
 
وعادة ما يكون البحث عن مشترك إسلامي ليبرالي مثل طبخة البحص، إذ يتوجب من البداية انفصال المشروعين، فليس في الليبرالية مكان لحاكمية الله وليس في الإسلام حاكمية الهوى.
إن موقفي يتلخص في أن الليبرالية والأصولية تياران تحركا داخل المجتمع الإسلامي، وأن من المنطقي أن ندرسهما في إطار متقابلين داخل الأمة وليس خارجها، ويمكن دراسة ذلك تاريخياً ضمن عنوان الرأي والنص، أو الرواية والدراية، أو الفقهاء والظاهرية، أو أهل الحديث وأهل الرأي، وهي تسميات شهيرة في التاريخ الإسلامي، وربما كان التأمل في دلالاتها هادياً في فهم حقيقة هذا الانفصام بين الليبرالية والأصولية في الإسلام.
ولعل أفضل دراسة اطلعت عليها في هذا السبيل للكاتب السعودي عبد الله البريدي وعنوانها: السلفية والليبرالية، وهو موقف هام إذ لم يجعل الرجل الليبرالية نقيضاً للإسلام بل اعتبرها نقيضاً للتفكير السلفي الذي يعيش في أتون النص ولا يخرج من إساره، فيما اعتبر أن الإسلام يتسع للفكر السلفي والليبرالي جميعاً.
 
من وجهة نظري فإن الليبرالية ليست مفهوماً معانداً للعقيدة الإسلامية، وعلى الأقل ليست كذلك في فهم النبي نفسه، فقد كان ذلك المجدد الرهيب على الرغم من اعتصامه بالوحي في كل ما يقرره من نصوص وإشارات ولكنه كان لا يتردد في تجاوز النص الديني إذا تأكد أن المصلحة بخلافه، ولكنه في ذلك كله لم يكن مضطراً لإعلان تجاوزه للغيب لقد كان في الواقع يقرر باحترام أنه في حاجة إلى تطور جديد في دلالة النص، ولا بأس أن يقف أمام العالم في مشروعه الجديد تحت عنوان عريض وصريح وهو النسخ، وقد مارس النسخ في أكثر من عشرين مرة على الأقل، كان يواجه فيها نصوصاً قرآنية لا تحتمل التأويل ولا الجدل، وهو المعنى الذي أشرت إليه، في الرباعيات التي كتبتها:
أيها الصادق كم من وقفة    قمت فيها ناسخاً حكم السماء
وشجاعاً كنت في تغييرها    يا لنا أتباع شؤم جبنــــــــاء
 
ومع أنه كان يقدم نفسه في غاية الخضوع لنص الوحي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، وما أنا إلا نذير مبين، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله ، قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي، ولكن هذه الحواجز جميعاً لم تكن لتحول بينه وبين خياره الحكيم في كل ما يحتاجه مشروعه النهضوي الذي كان يسعى إلى بنائه بكفاءة واقتدار.
تبدو ظاهرة النسخ لاهوتية مفارقة مستعلية، ويتم فقهياً اختزال دور الإنسان فيها إلى حد المتبع الخاضع، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك إنها في الواقع موقف ليبرالي خطير يقف فيه الإنسان في مواجهة نص الغيب، ويطالب السماء أن تقدم نصوصاً أكثر تلبية لحاجات الناس، وبعد سلسلة من المطالبات يتم تجاوز النص القديم بواحدة من اثنين إما باستحضار نص علوي يعالج الحالة المتعسرة، وفي حين لم يتوفر السبيل لمجيء نص سماوي فإن المبادرة التي مارسها النبي نفسه أدت في كثير من الأحيان إلى تجاوز النص القرآني، وعلى سبيل المثال نذكر هنا سلسلة مواجهات بين المطلب الليبرالي والصورة النصية كانت تنتهي دائماً بتحقيق المطلب الواقعي للأمة وبعد ذلك يتم التعامل مع النص وفق واحد من الخيارات الجريئة التي اعتمدها الفقهاء ونصوا عليها صراحة ولا بأس من تسمية هذه الأدوات، وإن كان الفقه المعاصر يعجز عن تصور الليبرالية التي تعامل بها الفقهاء الأوائل مع النص الديني، وهي: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتأويل الظاهر، وفي حالات كثيرة الوقف في النص، وفي عشرين حالة على الأقل القول بنسخ النص واستبدال ما هو خير منه.
 
 
وفي تقرير هذه الحقيقة فإنني أستعين بأربعة أمثلة من التطور الليبرالي في التشريع الإسلامي، وقد اخترت أربعة من هذه الأدلة وقعت في مسائل جوهرية ومركزية في الإسلام، وهي القبلة والخلافة والحدود والرقيق.
 
 
القبلة: بدت القبلة أكثر مظاهر الدين رسوخاً وخضوعاً وأقلها تعرضاً للاجتهاد، ومع ذلك فقد تم تعديل القبلة مرتين لمواجهة واقع سياسي ضاغط، فحين أنكره قومه واعتبروا رسالته ملعونة في مكة، أعلن أنه سيتحول في قبلته صوب بيت المقدس حيث أهل الكتاب القديم ومن المفترض أنهم سيوافقون على رسالته ولكن حين تيقن من إنكارهم للنبوة الجديدة وأصبح حراً في قراره في المدينة أعلن التحول إلى مكة من جديد: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
الخلافة : وهي من أهم أركان الشريعة، وبها عماد الدين، وقد كانت وراء انقسام المسلمين تاريخياً إلى أحزاب وملل، ولكن الشريعة مع ذلك لم تفرض نمطاً واحداً في شكل الحكم وإنما ترك ذلك للأمة تختار لنفسها ما تفرضه مصالحها الكبرى، وخلال الخمسين عاماً الأولى من الخلافة بعد الرسول كانت هناك أكثر من سبعة أنماط لتداول السلطة ، فقد جاء اختيار أبي بكر عن طريق أهل الحل والعقد، والبيعة المباشرة، فيما اختير عمر بالإيصاء من الخليفة الراحل، واختير عثمان عن طريق مجلس الخبراء واختير على عن طريق انقلاب عسكري، واختير معاوية عن طريق مصالحة وطنية وتوافق سياسي فيما جاء اختيار يزيد عن طريق الوراثة المحضة: الحكم العضوض.
الحدود : كانت الحدود حكماً تقرره المؤسسة القضائية الإسلامية، ولكن هذا الشكل من الحدود تم تعديله عدة مرات في حياة النبي الكريم، وكمثال على ذلك حد الزنا وحد الشذوذ الجنسي فقد تحولت عدة مرات وتركت بعد ذلك لتقدير الفقهاء، أما حد الخمر فإنه ظل يتردد بين الحد المفتوح وبين أربعين جلدة ثم ثمانين جلدة في عهد عمر باجتهاد علي، وتعددت الآراء بعد ذلك حتى لا يعرف لحد شرب الخمرة وجه واحد وإنما هو دائر بين اجتهادات القضاة في العالم الإسلامي، أما حد السلوك الجنسي المثلي فقد ظل غائماً وتردد الفقهاء في مواجهته بين إقرار كما في الأدب العربي الطافح بالإشارة إلى ثقافة الغلمان وتسمية هؤلاء بأسمائهم أعاينهم في كتب الفقه والأدب، وسيفاجأ المرء بحجم انتشار ظاهرة المثلية في الثقافة الإسلامية ، وأحيل هنا على ما كتبه الباحث المقتدر     في رصد هذه الظاهرة، في حين أن تياراً آخر من الفقهاء رأى في هذه الأفعال جريمة نكراء ولم يتردد في الحكم بوجوب قتل الفاعل والمفعول به!
الرقيق: لقد ظلت النصوص القرآنية تذكر الرقيق بواجب الخضوع والطاعة والسمع والإنابة، وفي القرآن الكريم نحو اثنين وعشرين موضعاً تذكر فيها الإماء والعبيد، ولا شك أن روح الآيات طافح بوجوب خضوع الإماء والعبيد للسادة والاستجابة لما يقررونه، ولكن الأمة تمكنت بعد عهد من الزمن من اعتبار ذلك أمراً تكرهه روح الشريعة التواقة إلى الحرية، وتم إلغاء الرقيق ويكاد يجمع الخطاب الإسلامي المعاصر اليوم على أن من محاسن الإسلام أنه ألغى الرق في برنامج حكيم وطويل، مع أن النصوص لا تساعد على ذلك أبداً، ولكنه تطور الأمة في سياقها الحر للبحث عن المعرفة والحقيقة والعدالة.
 
إن الأمثلة الأربعة التي أشرنا إليها تعتبر من أصول الإسلام الكبرى، ولا يتصور أنها محل للجدل والنقاش، ولكن الواقع يشير بشكل صارخ أن الأمة تعاملت مع النص نفسه بروح المصلحة الحقيقية للناس، وفي السنة قام العلماء برد آلاف الأحاديث التي لا تستجيب لهذه المطالب، أما في القرآن فلم يرد أحد نصاً من القرآن ولكن تم الاعتراف بأن أكثر من خمسمائة آية في القرآن لا تفهم على ظاهرها ويمكن أن يتطور فهمها وتأويلها من عصر لآخر بما يستجيب لحاجات الناس.
 
لقد اخترت في الواقع أشد أشكال الشريعة تناقضاً مع الليبرالية وهو الحقل التشريعي إذ المفترض في التشريع أن يعكس إرادة الوحي، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً.
ومع أن هذه النصوص حاسمة بالمطلق لجهة تأكيد العجز التشريعي لدى الإنسان ووجوب الانصياع لإرادة السماء ولكن الاستثناءات أكثر من أن تحصى ولو جمعنا ما ورد في باب الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقيد والمطلق والمؤول والظاهر لأمكننا أن نقول دون أدنى تردد إننا نتحدث عن أكثر من ثلاثة أرباع الشريعة، وقد تولت إنجاز رغبات الناس ومصالحهم الحقيقية.
وقد كان الناس يعجبون من قدرة النبي على تجاوز النص الغيبي والانخراط في سياسات واقعية تستجيب لحاجات الناس، وفي هذا السبيل قالت عائشة مستغربة: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، وكانت في ذلك تبدي حيرتها ودهشتها من قدرة الرسول الكريم على الاستجابة لواقع الحال على الرغم من قيود الوحي التي تثقل كاهله، ولكنه كان قادراً على أن يأتي بجديد لدى كل تحد يواجهه، ولو كان هذا التحدي من نص الغيب نفسه، وهو معنى أشرت إليه مراراً في رباعياتي:
 
أيها الصادق أشواقك في       غارك العالي شفاء للقلوب
كنت تلقيها على سمع الدجى    وتلقاها على جنح الغيوب
 
رب آيات من الصرف الصراح        رتلتهـــــــا ألسن المستغفرين
قد تبدى ذات يوم شأنهـــــــــا         لم تخف! أسقطتها قول اليقين
 
أيها الصادق كم من نكبة           قد نكبناها بنص مسند
لم تكن تعلم لما قلتها              أنها دستورهم للأبد
 
أما هو فقد كان لا يتردد في أن السبت جاء من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل السبت ، ومراراً رتل الآيات بمحضر من الصحابة ثم استجمع شجاعته وقال: هذه الآية منسوخة لا يحل العمل بما فيها، وأسقطها أحياناً من النص القرآني وتركها أحياناً أخرى، وأسس لمن بعده من العلماء أن يقول بعالي الصوت هذا نص عام يجب تخصيصه، وآخر مطلق يجب تقييده، وثالث ظاهر يجب تأويله، ورابع نص متشابه يجب التوقف فيه، إلى غير ذلك من آلات المفسرين التي تؤكد كلها حقيقة واحدة وهي أن النبي الكريم لم يجد في هذه النصوص التشريعية أغلالاً تعرقل مشروعه النهضوي بقدر ما رأى فيها مصابيح نور تضيء له دربه من غير أن تقيد كفاحه من أجل التنمية والبناء.
 
لقد اقتصر هذا المقال على بيان القدرة الليبرالية للإسلام في أمر التشريع، أما في السياسة فلا شك أن الأفق الليبرالي الذي تمت ممارسته خلال التاريخ الإسلامي مدهش ومحير، ووجد الفقهاء من يبرر لهم الحكم العضوض وولاية العهد ونظام الدواوين والخراج والأجناد والبيعة والوصاية، ومضى بعض المرتزقة من الفقهاء لتبرير السلوك الشخصي للخلفاء مما يعارض القيم الإسلامية الأصيلة، وفاحت في قصور الخلفاء رائحة الخمر والفاحشة والمجون ورواها كتاب الأدب يستحلونها لهم، ولم يكونوا يرون أنها تغض من أقدارهم أو حاجاتهم أو نواياهم.
لست هنا لأبرر ما صنعه الخلفاء، وليس لدي أدنى شك بأن ما مارسوه كان مشيناً ومخزياً، ولكنني هنا من أجل أن أقول إن قدرة الفقه الإسلامي على الاستجابة للمطلب الليبرالي كانت مدهشة، وإن أدوات الفقه الإسلامي التي كانت جاهزة لتبرير الاستبداد هي جاهزة أيضاً للإلزام بالمطلب الديمقراطي، والمسألة انتقائية بامتياز، وما أبرئ نفسي، وليس لدي ما أضيفه لهذه الحقيقة غير قول الأول: اختيار الرجل قطعة من عقله.
 
                                                                       د.محمد حبش

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.