تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (3/3)

 البداية ترتبط بالنهاية دائماً، فعندما تكون النهاية سيئة، تجبّ البداية الحسنة، والمسألة، بعد، ليست في السجن، بل فيما يكونه المرء بعد السجن، وليست في المنفى، وإنما ما بعد المنفى وقد سجنت مرات عديدة، فينضالي ضد الاحتلال الفرنسي، وعرفت المنافي للأسباب ذاتها، ثلاث مرات، وتابعت بعدالاستقلال، كفاحي لتحقيق ما أمكن من مطالب الشعب الضرورية وهذه كانت بدايتي، وقددفعت الثمن، لأن المسؤولين آنذاك وجدوا فيّ مخلوقاً يطالب بقوة، بإلحاح، بجرأة، مع أمثاله، بما هو حق لهم. وماذا كنا نخشى؟ في السجن نجد اللقمة، وفي تحقيق هذا المطلبأو ذاك نلقى العزاء، ولم يكن لدينا ما نخاف عليه، لأننا، أصلاً مخلوقات العالم السفلي.

بعد ذلك، وأنا حلاق في اللاذقية، كنت أبيع جريدة (صوت الشعب) الناطقة باسمنا ونيابة عنا، وعن المسحوقين منأمثالنا. كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وكنا ضد النازية، وضد الاحتلال الفرنسي، وضد أغواتنا، وقد تدرجت، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سورية ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة. ‏
بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها على كيفي، غيرت العالم على كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها.. ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح، وما أزال. القصص ضاعت أيضاً. لم أشعر بالأسف. وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة! المهم أنني لم أفكر ، وأنا حلاق،وسياسي مطارد، بأنني سأصبح كاتباً. وكان هذا فوق طموحي، رغم رحابة هذا الطموح.. صدقوني إنني، حتى الآن، كاتب دخيل على المهنة، وأفكر بعد هذا العمر الطويل، بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطاً. الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أنيكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. ‏
يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع النقاد والدارسين، لكنها بالنسبة إليّورقة خريف سقطت!. ‏
وقد كنت، كما هو معروف،يسارياً وسأبقى.. أما لماذا الأمر كذلك، فإن هذه (اللماذا) في غير محلها! تصوروا أنالعالم السفلي، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي، ثم نكون في اليمين، الذييتغذى أطفاله بالشيكولاته ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك؟ ‏
الرواية الأولى التي كتبت هاكانت (المصابيح الزرق)، لكنني لم أفكر بشرارتها، أهي حمراء أم زرقاء، وهل أنانيروداً حتى تطلق قصائدي شرارات؟ إنني بابا نوئيل أوزع الرؤى على الناس، كي أفتحعيونهم على الواقع البائس. ‏
واحسب أنني ناجح إلى حد ما،لأن كلماتي التي أكلت عيوني، على مدى نصف قرن، لم تكن مجانية. لقد حرصت دائماً على شيئين: الإيقاع والتشويق! وكتبت لغايتين: توفير المتعة والمعرفة للقراء، وهذا سرنجاحي الكبير، فلا أبوح به إلا للنشر! تأملوا! ‏
يقال: إن البحر كان دائم اًمصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلكمتعمداً؟ في الجواب أقول: ‏
في البدء لم أقصد شيئاً. لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة.. أما العواصف فقدنُقشت وشماً على جلدي. إذا نادوا: يا بحر! أجبت أنا،! البحر أنا فيه ولدت، وفيهأرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً؟ إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماءنهر الأردن، على طريقة يوحنا، أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألانعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي،جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه اليابسة، جزء منه. ‏
البحّار لا يصطاد منالمقلاة! وكذلك لا يقعي على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبربكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! الأدباء العرب، أكثرهم لميكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدعي الفروسية،المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. ‏
كان ذلك في الماضي الشقيوالماجد من حياتي، بعد ذلك، وفي الحرب العالمية الثانية، ‏
توقف العمل في البحر،اشتغلت في مهن كثيرة، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربي أطفال في بيت سيد غني، كانيسومني العذاب مرّاً إذا بكى طفل، أو مرضت طفلة، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاق، إلىصحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، مع كل ما تقومبه الوظيفة من تدجين بطيء، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة، أي قبل غزل الظلمةفي حضن الثرى. ‏
هذه المسيرة الطويلة كانتمشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير.. دمي سال في مواقع خطواتي. أنظر الآن إلىالماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف!؟ أين، أين!؟ هناك البحر وأنا علىاليابسة!؟ أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق.. أليسهذا حلماً جميلاً؟ ‏
السبب أنني مربوط بسلك خفيإلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمنعلى جبل قاسيون، ومغرم متيم ببردى، لذلك أحب فيروز والشآميات. ‏
هذا كله جميل، لكنني غريبفي غربته، قولة أبي حيان التوحيدي، غريب عن البحر: بيتي، حديقتي، ملعبي، فكيف تكونالهناءة والحبيب الأزرق بعيداً؟ تعويضاً أسترجع الماضي، أكتبه، أعوض بما هو كائن،عما كان، أهدم العالم وأعيد بناءه، أستحضر تجارب البحر، أشدّها هولاً، أكتب وأكتب: ثماني روايات عن البحر، ولم أزل في المقدمة من هذا السفر الذي سيكتبه الآتون بعديمن الأجيال الشابة، إذا لم تكن قلوبهم من تراب!. ‏
أكره الطرق المعبّدة، دأبي اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا: البحر، الغابة، الجبل، الثلج، المعركة الحربية،البلدان البعيدة، النضال الوطني السرّي، الموت، الجنون، الشجاعة، البطولات الشعبية،الموروثات والمأثورات والصور الغريبة. أكره، أيضاً، نصفي العاقل، لماذا نحن الأدباءالعرب، في العقلاء جداً؟ ولماذا في القَعَدَة؟ وأين الجنون والانتحار وعدمالانتماء؟ لا أحب الذين يستريحون على مؤخراتهم! ‏
في أعمالي الأدبية (40رواية حتى الآن) شخصيات كثيرة جداً: هناك عالم متكامل من مخلوقات متنوعة متباينة،على أرضية واقعية، تمتزج معها الرومانتيكية وتتبلور في تصرفاتها والأقوال، (روائي واقعي رومانتيكي) هذا هو عنوان دراسة الدكتورة نجاح العطار، التي نُشرت في (الطريق) و(المعرفة) ومجلات أدبية أخرى، ذلك أن الواقعية، كما ترى الناقدة الدكتورة العطار،تتسع، وتستوعب، كل المدارس الأدبية. ‏
أذكّر هنا بطرفتين: أولاهماأنني كلفت صديقاً بأن يجمع لي أسماء شخصيات رواياتي، قبل أن أبدأ كتابة رواية (النجوم تحاكم القمر)، فقام بالمهمة حتى عجز عنها. قال لي: (هناك أكثر من (560) شخصية، في عشر روايات فقط، فكم يكون العدد في الروايات العشر الأخرى؟ إنني، وأناأقرأ الرواية، تستهويني الأحداث، فأنسى إحصاء الشخصيات، ويكون عليَّ أن أعود منجديد، وهذا ما لا أستطيعه.. يا للغرابة إن ضحكت طبعاً وقلت: (أنا تلميذ بالنسبةلأستاذي نجيب محفوظ، فكيف لو كلفك هو بما كلفتك أنا به!؟). ‏
الطرفة الأخرى أن أديباً مناللاذقية، هو الأستاذ سمير سكاف، قام بمحاولة من هذا النوع، دون تكليف طبعاً، وقدكتب إليّ، بعد أن أعياه الجواب على السؤال التالي: (من أي متحف بشري جئت بهذا الحشدمن المخلوقات، التي لا يشبه أحدها الآخر!؟ إنني ألجأ إليك، وأنتظر الجواب!) ضحكتولم أجب، أنا نفسي لا أعرف، وأحسب أن هذا السؤال من باب التعجيز، وأشهد أنني عاجز! إذاً، بمقياس كهذا، كيف أحصي الشخصيات الروائية التي تركت بصماتها في ذاكرتي، كيفأعدّ الشخصيات التي لم أكتبها بعد، والتي لا تزال حبيسة في طاسة رأسي، تدق علىصدغيّ طالبة الخروج إلى النور؟ أحيلكم، في الجواب، على روايتي (النجوم تحاكم القمر) و(القمر في المحاق) ففي متحف مخلوقات أكبر بكثير من المتحف الذي سألني عنه الأديبسمير سكاف.. عرفتم الآن، لماذا أنا معذّب، ولماذا أفكر باعتزال الكتابة!؟ إنها (ملهاة إنسانية) كاملة! وإنها لسخرية أن تحاكم الشخصيات الروائية مبدعها الروائي،بكل ما تعنيه المحاكمة، التي يتهم فيها المؤلف عناد الزكرتاوي بقتل ديمتريو، بطل (مأساة ديمتريو) ويُحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى يكمل كتابة ما تبقى منروايات وقصص! وهو، المؤلف، يصرخ ناشجاً: (نفذوا! نفذوا!)، ذلك أننا، بعبارة واحدة،محكومون جميعاً بالإعدام مع وقف التنفيذ حتى تواصل حياة الأديب العربي التي هي، مع التخفيف والرحمة، حياة تعاسة دراماتيكية بامتياز!. ‏
في طفولتي، كنت في فقرأسود، وفي شيخوختي في فقر أبيض، أي إنها (مستورة!) حسب تعبير إحدى بناتي، وأجزم أنحياة زملائي من الكتاب أسوأ من حياتي، لأنها غير (مستورة!) ‏
 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.