تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مشاجرة بين الاقتصاد والبيئة والخسائر 89 مليار ل.س

 

قضايا مهمة يطرحها الأستاذ نهاد جميل العبد اللـه حول تلوث البيئة وآثارها، ويقدم إلى جانب ذلك بعض الحلول التي تم تجربتها في عدد من الدول، وهنا تفاصيل هذا اللقاء مع مؤسس كلية العمارة بجامعة تشرين اجرته صحيفة الوطن .
 
ما توصيف حالة التلوث البيئي الراهنة في سورية؟
إن الحديث عن حالة التلوث البيئي الراهنة في سورية، هو طرح عام جداً، والقضايا البيئية تطرح على مستويات عدة، والتلوث عادة هو أحد موضوعاتها، إذ إن القضية الأساسية هي كيف تدار الموارد البيئية كاملة؟. هل هذه الإدارة مستدامة؟ أي هل نحن في حالة استنزاف لهذه الموارد؟. هل مواردنا البيئية متجددة؟ فالإستراتيجية وخطة العمل الوطنية البيئية في سورية والتي أعدت عام 2003 من قبل وزارة الدولة لشؤون البيئة تشير إلى مشكلات واسعة النطاق بخصوص كل الموضوعات البيئية وليس التلوث البيئي فقط، مثل تدهور موارد المياه السطحية والجوفية، تناقص موارد الأرض الزراعية، تلوث الهواء، تدهور التنوع الحيوي والموارد الحيوية، مشكلة إدارة النفايات البلدية والخطرة، والبيئة الحضرية والعمرانية (السكن العشوائي)، وتدهور التراث الحضاري، أيضاً البيئة العالمية وموضوعها المشترك بين مختلف الدول كقضية الاحتباس الحراري وإنتاج المواد الضارة بطبقة الأوزون.
إننا وللأسف لدينا مشكلات بيئية على جميع الأصعدة المذكورة سابقاً:
فالموارد المائية تعاني من عجز في العديد من الأحواض المائية كبردى والأعوج واليرموك والخابور وهذا العجز يُغطّى على حساب استنزاف المياه الجوفية وعند بلوغ معدلات استنزاف المياه الجوفية نسباً أعلى من معدلات تجددها فنحن في خطر. أيضاً يشكل تلوث مصادر المياه الجوفية والسطحية بسبب مياه الصرف المنزلي والصناعي نتيجة للنقص في القدرة على معالجتها أحد أهم مصادر الخطر على الصحة العامة فعلى سبيل المثال لا تزال محطتا المعالجة المقترحتان للساحل السوري في اللاذقية وطرطوس تراوحان مكانهما منذ عشرين عاماً، أيضاً الاستخدام المفرط في استخدام المبيدات يعد أحد أهم مصادر تلوث المياه السطحية والجوفية.
إن مستويات تلوث الهواء في المدن الرئيسية تشير إلى تراجع نوعية الهواء، وتزايد تركيز العوالق والانبعاث الغازي عن الحدود المسموحة في المعايير السورية، وقد أصبحت ظاهرة الضباب الدخاني صيفاً واضحة، تترك آثارها على الصّحة وعلى الغطاء النباتي ومكونات البناء وخاصة الأبنية الأثريّة والتاريخيّة. وللأسف نفتقر إلى مؤشرات قياس جديّة لتلوث الهواء انظر مثلاً ما يحدث في بانياس التي تحاصرها من الجنوب والشمال كل من المحطة الحرارية ومصفاة النفط.
أما مواردنا المحدودة من الأرض الزراعية، فهي في تناقص مستمر! لماذا؟ لأنها تتآكل يوماً بعد آخر أمام زحف المدن والعمران والتلوث بالمخلفات على أنواعها، انظر ماذا حدث في غوطة دمشق وسهول الساحل ومحيط المدن السورية بلا استثناء. بالإضافة إلى تصحر البوادي بسبب الرعي الجائر والجفاف، وكذلك تملح الأراضي في المنطقة الشرقية نتيجة أساليب الري غير المدروسة.
العجز في الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة واحدة من المشكلات التي لم تجد حلاً متكاملاً، فلا تزال المكبات المفتوحة أو المغطاة بالتراب حول المدن وحرق النفايات فيها تسبب تلوث المياه الجوفية والتربة وتلوث الهواء نتيجة الحرق. والأكثر خطورة لم نحقق بعد فرزاً كاملاً للنفايات وإعادة تدويرها وهنا لنا أن نشكر الظاهرة المتخلفة حضارياً والتي يقوم بها جامعو القمامة لدورهم في فرز القمامة وتدويرها، أيضاً الكثير من النفايات السامة الصناعية والطبية يتم التخلص منها في المكبات العامة،.. الخ.
أما البيئات الحضرية في سورية فقد بلغت فيها نسبة مناطق السكن العشوائي رقماً غينيسياً يسكنها نحو 50% من سكان البلاد، وهي بيئات أبسط ما يمكن القول فيها إنها غير حضرية، وتتمتع بكل أشكال التلوث البيئي وفي مقدمته التلوث البصري وفقدان الأهلية الإنشائية، والأمراض الاجتماعية والتي تشكل العشوائيات الحاضنة الأم لها.
أما التراث الحضاري فيزداد تدهوره نتيجة لتلوث الهواء ما يفقده جاذبيته السياحية، انظر المدن القديمة في دمشق وحلب.. كيف تصطبغ بالسواد، والأمر لا يقف عند التلوث البصري بل يتعداه إلى التأثير الكيميائي على عمر هذا التراث.
 
ما المطلوب بشكل آني؟
المطلوب هو الانتقال من الوعي إلى ممارسته، والبدء بتنفيذ مختلف التقنيات المتوافرة في العالم للحد من ظواهر التلوث، وإذا كانت مستويات التلوث بلغت كماً كبيراً يفوق إمكاناتنا في استعادة الوضع الأمن، فالضرورة تقتضي العمل على وقف تزايدها، وذلك من خلال جهود كل الجهات وفي مقدمتها وزارة البيئة بالتعاون مع البلديات وأجهزة الرقابة الأخرى والمجتمع الأهلي. إن أخطر جوانب التلوث البيئي هو وصوله إلى حد يصبح عنده غير عكوس أي يصبح دائماً، مثلاً، إن تملح المياه الجوفية في مناطق من مدينة اللاذقية بسبب الاستخدام الذي يفوق قدرة تجدد المياه الجوفية دفع بمياه البحر لملء الفراغ وهذا التلوث غير عكوس. أيضاً إن انقراض بعض السلالات الحيوية المستوطنة فقط في بلادنا نتيجة لفقدان شروط الموئل سوف لن يعوضه أي إجراء، وتملح الأراضي الزراعية في المناطق الشرقية هو مثال آخر... لذلك أعتقد أن التطبيق الصارم للقوانين والتشريعات بالتزامن مع تطوير آليات مراقبة مؤشرات التلوث البيئي، وتفعيل دور المجتمع الأهلي في الإسهام في هذه العملية هو المطلوب آنياً.
 
ما المطلوب استراتيجياً؟
لقد تبين علمياً أن للحضارة والتنمية ضريبتها ولكن يمكن لهذه الضريبة أن تكون في حدودها الدنيا، ولذلك فإن أي إستراتيجية بيئية يجب أن تأخذ في أولوياتها: 1) الاستخدام المستدام للموارد المائية؛ 2) الاستخدام المستدام لموارد الأراضي؛ 3) تحسين الخدمات والبنية التحتية في المراكز الحضرية؛ 4) التنمية المستدامة للموارد الطبيعية والتراثية؛ 5) العمل على تعميم استخدام أشكال الطاقة النظيفة والمتجددة. ولتحقيق هذه الأوليات هناك سبل جديدة تطرح كل يوم على المستوى العالمي، مثل، استخدام البدائل السليمة بيئياً، كالطاقة الشمسية والريحية والمائية، استخدام الغاز بدلاً من الوقود السائل، استخدام التجهيزات النظيفة بيئياً، المكافحة الحيوية كبديل للمبيدات، زيادة المناطق والمساحات المحميّة، تدوير النفايات الصناعية وتحويل النفايات العضوية إلى أسمدة... ولنستفد من خبرات الدول المتقدمة في هذا المجال، لقد تمكنت فرنسا من خفض التلوث إلى 80% من خلال مبدأ بسيط مفاده: لكم الحرية في إحداث أي تلوث يمكن أن يسببه نشاطكم الصناعي أو التجاري أو اليومي ولكن عليكم أن تدفعوا تكاليف إزالة هذا التلوث فهناك جهات ستعمل على تنظيفه، وإن لم تدفع عندها تبدأ الإجراءات التي يقرّها القانون والتي تصل إلى حد إغلاق المنشأة أو وقف النشاط كله. ما الذي تتطلبه هذه الإستراتيجية؟ ببساطة، تشريعات بيئية متكاملة، أجهزة رقابة صارمة، دور أهلي فاعل.
 
كيف يؤدي المعماريون دورهم في مواجهة التلوث؟
للمعماريين دوران الأول على مستوى التخطيط الحضري والثاني في تصميم دور السكن، فعلى مستوى التخطيط العمراني يجب أن يأخذوا بالاعتبار كل المخاطر البيئية في تخطيطهم للمدن ومناطق التوسع الجديدة، أي ربط التخطيط الحضري بالبيئة عن طريق كشف العلاقات والتأثير المتبادل بينهما، وهذا يشمل كل الفعاليات الاقتصادية للسكان في هذه المنطقة والمواصلات وموارد الطاقة والمياه والصرف الصحي والتخلص من النفايات، ودراسة المناطق الخضراء،.. ضمن إطار من التوقعات لمعدلات النمو السكاني وتطور الفعاليات المجتمعية للسكان لفترة لا تقل عن 25-50 عاماً مع أن معدل النمو السكاني أمر أصبح خارج السيطرة. على مستوى تصميم دور السكن، ومن الناحية البيئية تحديداً، يجب على المعماريين الاستفادة من التطور الكبير في مواد البناء وتقنياتها كمضاعفة الجدران الخارجية فبلادنا تزداد حرارة عاماً بعد آخر، وإحكام النوافذ والأبواب منعاً للتسرب الحراري شتاءً وهرباً من تدفقها إلى الداخل صيفاً، والعزل الحراري للأسطح والجدران المواجهة للشمس،... واستخدام الطاقة الشمسية في تسخين الماء، وغيرها. وإن كانت هذه الإجراءات تبدو مكلفة خلال التأسيس فهي رخيصة جداً قياساً بالوفر الاقتصادي الذي تحققه مع الزمن ناهيك عن حماية البيئة.
 
ما المطلوب منكم كمعماريين؟
التعلم ممن سبقونا في هذا المضمار، فالعجلة اكتشفت ولا مبرر لاكتشافها ثانية. وإذا كان لدينا خصوصيات تتطلب الحلول الخاصة فلنعمل على ابتكار حلولنا الخاصة، وهذا لا يتم إلا بالبحث العلمي.
 
ما المطلوب من أهل الخبرة؟
لا أعلم من المقصودون بسؤالك أحب أن أتناول هنا دور أهل الثقافة والمهتمين بالشأن العام، يجب أن تصبح قضية البيئة وحمايتها، قضية وطنية، تدخل في مناهج التربية والتعليم على أوسع نطاق، وهدفاً أساسياً لرسالة الإعلام حتى في برامج الترفيه، يجب أن تتحول معارف السلوك البيئي إلى بديهيات في ثقافة كل صغير وكبير، وتصبح جزءاً من ممارساتنا، يجب أن نُشرك الجميع في المسؤولية، يجب أن نوسّع دور المجتمع الأهلي ما أمكن باعتباره حارساً وفاعلاً بحيث تتسع دائرة المدافعين عن حاضرنا ومستقبل أولادنا، يجب أن نكف عن إلقاء اللوم على الآخرين.
 
ما المطلوب من المشرع؟
في الحقيقة لقد أنجزت سورية خلال السنوات العشر الأخيرة مجموعة من التشريعات، والتي تغطي مختلف الجوانب البيئية، مثل القانون رقم /50/ لعام 2002، والقانون رقم /9/ لعام 2006 وقانون الحراج الجديد لعام 2007، وقانون نظافة وجمالية الوحدات الإدارية رقم /45/ لعام 2004 وغيرها... ولدينا مجلس حماية البيئة الذي يضم معظم وزاراتنا ووزارة البيئة ومديرياتها أيضاً لدينا سلطات الحراج ومجالس المدن والبلدات والقرى وهي جميعها تمتلك الغطاء التشريعي للتدخل لوقف كل أشكال الاعتداء على البيئة من خلال العقوبات والغرامات واتخاذ الإجراءات الرادعة، وإذا كان علينا أن نطلب من المشرّع أمراً فهو الاستمرار في تحديث التشريعات مع ما يستجد من قضايا يطرحها الواقع المحلي والدولي. ولكن التشريع وحده لا يكفي فالمطلوب هو تطبيق هذه التشريعات وعدم التساهل في أمر على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة.
 
ما المطلوب من التنفيذيين أي الإداريين ذوي الصلة؟
نفذوا كل الصلاحيات المعطاة لكم. وإن كانت لا تكفي فاطلبوا المزيد منها فالمركب واحد والجميع غارقون.
 
ما المطلوب من الجمهور؟
إن كلمة جمهور هنا تفترض أن هناك من يلوث وآخر يتفرج، أعتقد أن المعادلة ليست على هذا النحو، فقضية البيئة هي قضية سلوك مجتمعيّ حضاريّ مُدرك وواعٍ يقوم به مجموع الناس، والتدقيق في سلوك من سميتهم الجمهور يُظهر أنهم لا يقلّون فعلاً عن غيرهم. فالاستخدام المفرط للطاقة في المنازل بأشكالها (إنارة، تدفئة، تكييف) والاستخدام غير الرشيد لموارد مياه الشرب والريّ، والإفراط في استخدام المنظفات أحد أكبر الملوثات في العالم، والسلوك الملوث للبيئة في الغابات ومجاري المياه، والاعتداء على الغابات تحطيباً وحرقاً، والصيد الجائر بحراً وبراً، وعدم احترام قواعد النظافة في الشارع والحديقة، والإفراط في الضجيج، وعدم احترام القيم الجمالية في بناء المسكن ومخالفة النظم والقوانين والتشريعات وفرض أمر واقع على السلطات كما في مناطق السكن العشوائي، والصمت أو التواطؤ مع ملوثي البيئة وإلقاء اللوم على السلطات، كل ذلك، يُظهر أن ليس من جمهور في هذه اللعبة، فالمطلوب أن يرتقي الجميع إلى الدور الفاعل في الحفاظ على البيئة وممارسة الوعي بأهمية دوره كفرد أولاً وكمجموع ثانياً.
 
ما تقديراتكم لحجم العبء الاقتصادي على البيئة السورية؟
حقيقة، لا تتوافر معطيات سوريّة حول حجم العب الاقتصادي على البيئة السورية، ولكن في دراسة للبنك الدولي تضمنت تقدير كلفة التدهور البيئي من خلال حسابها من الناتج المحلي الإجمالي GDP وذلك بحساب التراجع في نوعية حياة الناس وتردي نوعية البيئة مثل التعرض للأمراض الناتجة عن تلوث البيئة وكلفة علاج هذه الأمراض جسديا وسنوات العمل والحياة التي تتم خسارتها بسبب الأمراض إضافة إلى خسارة قيمة الخدمات البيئية والموارد (التربة، المياه، الهواء، التنوع الحيوي) وخاصة غير المتجددة منها وكذلك خسارة الفرص والميزات البيئية مثل المعايير الجمالية للمناطق السياحية، الخ...
فقد تبين أنها بلغت في سورية 3.5% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي عام 2008 وإذا أخذنا قيمة الناتج المحلي في سورية 55.2 مليار دولار وفق البنك الدولي فإن قيمة الخسارة الاقتصادية تصل إلى 1.932 مليار دولار سنوياً أي ما يقارب 89 مليار ليرة سورية. وها هي بعض الأمثلة:
- تتطلب معالجة مشكلة السكن العشوائي 1200 مليار ليرة سورية ليس غير.
- قُدّرت الخسارة الناتجة عن نقص المساحات القابلة للزراعة بـ5.7 مليارات ل.س سنوياً إذا ما زرعت بمحصول بعلي كالشعير. - قدرت قيمة إنتاج الأراضي المتملحة بنحو 5.5 مليارات ل.س سنوياً
  

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.