تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عامان على حرب «التنجيم الاستراتيجي»: أوكرانيا مقبرة الطموحات الغربية

مصدر الصورة
الأخبار اللبنانية

من ينتظر إقراراً من المسؤولين الغربيّين وجيوش خبرائهم ومراكز دراساتهم، بعدم صحة، أو في الحد الأدنى عدم دقة، توقعاتهم بالنسبة إلى المآلات «الحتمية» للنزاع الذي اندلع في أوكرانيا منذ سنتين مع روسيا، سينتظر طويلاً. حال هؤلاء في الواقع كحال المنجّمين؛ كثيراً ما تكذّب التطورات غالبية «تنبؤاتهم»، لكنهم يستمرون في إطلاق غيرها، ويجدون من ينصت إليها باهتمام بالغ. طوال هاتين السنتين، كنا أمام ضرب من ضروب «التنجيم الإستراتيجي» يقدّم إلى المستمعين الغربيين ما يشتهون ويتمنون: هزيمة واندحار من أوكرانيا، يليهما سقوط للنظام في موسكو، وربما أيضاً تفكك للوحدة الترابية لروسيا.

كذّبت مجريات الميدان هذه «التنبؤات» بمجملها، وكشفت، بالتوازي مع متغيرات سياسية واقتصادية دولية مرتبطة بها، عن تحولات متسارعة في موازين القوى لغير مصلحة الولايات المتحدة ومعسكر «الغرب الجماعي» الذي تتزعمه.لقد بات واضحاً أن روسيا ليست «سعودية مع سلاح نووي»، كما اعتاد عدد من «المنجمين الإستراتيجيين» تسميتها، وأن قدراتها العسكرية والاقتصادية، وشبكات شراكاتها الدولية، أكبر وأمتن ممّا روجوا له.

تبدت، كذلك، في خضم هذه الحرب التي تخاض بالوكالة عن حلف «الناتو»، مجموعة من الأعطاب البنيوية التي تعانيها اقتصاديات بلدانه، وأبرزها انحسار قاعدتها الصناعية العسكرية، ما يفسر عجزها عن تلبية حاجات حلفائها الأوكرانيين من الذخيرة وأنواع مختلفة من الأسلحة. أضحى من الثابت اليوم أن الهجوم المضاد الأوكراني الذي بدأ في ربيع 2023، كان بمنزلة الكارثة الإستراتيجية، وأنه تحطّم في مواجهة خطوط الدفاع المنيعة لروسيا، وأن الأخيرة انتقلت مجدداً إلى سياسة القضم المدروس، التي تجلّت في بسط سيطرتها على مدينة أفدييفكا في محافظة دونيتسك.

أما على الجبهة السياسية، فقد تجلى بوضوح رفض بلدان الجنوب العالمي، أي غالبية بلدان المعمورة، الانجرار خلف الولايات المتحدة في مجابهتها مع روسيا، واستمرارها في التعاون الاقتصادي والتجاري مع الأخيرة، وهو ما أدى إلى تعزيز نمو اقتصاد موسكو بمعدل 3,5% في 2023. كما أتت حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، والتي تتم بشراكة أميركية كاملة، لتوجه ضربة قاضية إلى صدقية خطاب إدارة بايدن على صعيد الكوكب، عن دفاعها عن «قيم حقوق الإنسان والديموقراطية» وتصدّيها للنظم الشمولية ذوداً عنها. بالنتيجة، سنتان بعد انفجار الحرب، واشنطن ومعسكرها في مأزق لا يحسدون عليه.
تعليقاً على الحرب الدائرة في أوكرانيا، رأى ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية المصنف «كبير العقلاء» في إدارة بايدن، أن هذه الأخيرة «تسببت في مقتل أو جرح 315000 جندي روسي، وبتدمير ثلثي مدرعات هذا الجيش، وبإجهاض عملية تحديث قدراته التي تفاخر بها بوتين وامتدت عقداً كاملاً».

ويضيف غراهام أليسون، المؤرخ الأميركي ومسؤول التخطيط الأسبق في البنتاغون، الذي أورد كلام بيرنز في مقال في «ذي ناشيونال إنتريست» بعنوان «ما يدين به الأمريكيون لأوكرانيا»، أن جميع هذه «الإنجازات» تحققت «من دون خسارة حياة أي جندي أميركي، ما سمح بإضعاف تهديد بوتين العسكري للناتو بشكل جدي». أليسون بدوره يعتبر من «العقلاء»، وسبق أن ألّف كتاباً في 2017 بعنوان «محكومون بالحرب؟ كيف تستطيع الولايات المتحدة والصين تجنب فخ توسيديديس»، الغاية منه إقناع صناع القرار الأميركيين باعتماد سياسات أقل عدوانية تجاه بكين لمنع التدحرج نحو صراع مدمر معها.

لكن إذا توافرت الإمكانية لخوض حرب مروعة بالوكالة، و«من دون مقتل أي جندي أميركي»، ضد المنافسين الإستراتيجيين في روسيا والصين أو غيرهما، فهذا هو المطلوب! مقال أليسون يندرج في إطار النقاش المستعر حالياً بين النخب الأميركية حول وجاهة المضي في إرسال المساعدات العسكرية الباهظة الكلفة إلى أوكرانيا. وحتى الآن، لم يتم إقرار مساعدات بقيمة 95 مليار دولار، منها 60 لمصلحة أوكرانيا، والبقية لإسرائيل وتايوان، من قبل الكونغرس نتيجة لمعارضة نواب جمهوريين.

تحطم الهجوم الأوكراني المضاد في مواجهة خطوط الدفاع المنيعة لروسيا


يشي الأمر المتقدم بتفكك الإجماع الداخلي الأميركي حول ضرورة الاستمرار في دعم كييف، والذي يتوقع الكثيرون توقفه تماماً في حال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية آخر هذه السنة. ولكن، حتى ولو استمر مثل ذلك الدعم، فإن العجز الأميركي والغربي عن تأمين الكميات الهائلة المطلوبة من الذخائر من قبل الأوكرانيين في سياق حرب استنزاف طويلة وعلى جبهات ممتدة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية والحربين الكورية والعراقية - الإيرانية، هو المعطى المركزي الذي ينبغي التوقف عنده.

يعترف المحللون الغربيون بأن هذا العجز هو الذي أفضى إلى هزيمة الهجوم المضاد الأوكراني وبداية التراجع. غير أنهم لا يستفيضون في شرح خلفياته الاقتصادية وفي مقدمتها انحسار القاعدة الصناعية في دول الغرب بفعل انتقالها منذ عقود إلى الاقتصاد «ما بعد الصناعي» الذي تسود قطاعاته المالية والرقمية والخدماتية على حساب الصناعة.
إيمانويل تود، المؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي، تناول في كتاب مهم صادر هذه السنة بعنوان «هزيمة الغرب»، هذه الخلفيات، مؤكداً أن الحروب الطويلة هي المعيار الفعلي لقياس قوة اقتصاد البلدان المنخرطة فيها، أكثر من مؤشرات كالناتج المحلي الإجمالي، وصلابة تلاحمها الاجتماعي الداخلي. خلاصة تود هي أن روسيا، ذات الاقتصاد الصناعي «المتأخر»، والتي لا تواجه نفاداً في الذخائر، والتي تلتفّ غالبية مجتمعها حول النظام «الديموقراطي السلطوي» الذي يقوده بوتين، ستخرج منتصرة من المواجهة الراهنة.

غالبية روسية وازنة مقتنعة بأنها في خضم معركة وجودية وبأن مصير بلادها على المحك. لم تعد الحال كذلك في أوكرانيا وفقاً لعدد من التقارير، وآخرها لصحيفة «لوموند» التي حملت طوال السنتين الماضيتين لواء «المقاومة الأوكرانية»، وصدر بعنوان «بعد عامين من النزاع، وحدة البلاد على المحك»، أشار فيه كاتبه توماس ديستريا، إلى شرخ متزايد بين قسم من أبناء الشرق الأوكراني الذين يشكلون غالبية المقاتلين على الجبهة، وأبناء الغرب الذين يسعون إلى النأي بالنفس عن الحرب الدائرة ويهربون من التجنيد.

ولا شك في أن الخسائر الفادحة في الأرواح التي تكبدتها القوات الأوكرانية خلال السنة الماضية وفشلها في الميدان هما عاملان حاسمان في إنتاج مثل هذا الشرخ.
هرعت الولايات المتحدة إلى نجدة حليفها الصهيوني بعد عملية «طوفان الأقصى»، ورعت، وما زالت ترعى، سياسياً وعسكرياً، حرب الإبادة التي يشنها على غزة استناداً إلى قناعتهما المشتركة بأن القتل الجماعي والتدمير الشامل والتجويع والتهجير، ستكسر إرادة الشعب الفلسطيني في المقاومة.

وبعد سنوات طويلة من تكرار مقولة «عدم التورط في حروب الشرق الأوسط مجدداً» من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة، هي تجد نفسها في صدام مباشر مع المقاومة اليمنية، حيث تخوض حسب تعبير أحد ضباط بحريتها، أكبر معركة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية، ومع المقاومة العراقية في العراق وسوريا، إضافة إلى المعركة التي لا تقل أهمية على الجبهة السياسية والديبلوماسية، إذ باتت معزولة تماماً في مجلس الأمن عندما استخدمت للمرة الثالثة الفيتو ضد مشروع قرار جزائري لوقف إطلاق النار في غزة.
كذلك، تشكل مواقف دول الجنوب العالمي الوازنة ومبادراتها، كجنوب أفريقيا التي رفعت دعوى أمام «محكمة العدل الدولية» ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية، وخطاب الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، الذي وجه الاتهامات نفسها إليها، وكذلك كلام ممثل الصين أمام المحكمة حيث أكّد شرعية المقاومة الفلسطينية المسلحة، صفعات سياسية - ديبلوماسية ليس إلى الكيان الصهيوني وحده، بل إلى الولايات المتحدة، الشريكة الكاملة في حرب الإبادة.

محرقة غزة أصبحت بنظر شعوب الجنوب وقطاعات لا يستهان بها من شعوب الغرب، هي الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي الذي تتزعمه واشنطن. تمسكها بمفهوم «الريادة الأبدية» (perpetual preeminence) الذي بلورته نخبها السياسية والعسكرية عندما كانت في أوج سكرة الانتصار في بداية التسعينيات، ويدفعها راهناً إلى إشعال الحروب ورعاية القتل الجماعي رغم صيرورتها إمبراطورية هرمة، سيعجّل من انحدارها وانهيارها. الإمبراطوريات محكومة بالموت. هذا أيضاً هو درس من التاريخ.

وليد شرارة

مصدر الخبر
الأخبار اللبنانية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.