تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هل ما زالتِ السّيادة ممكنة؟

مصدر الصورة
عن الانترنيت

عبد الاله بلقزيز

مَن يُطالع مشهد التحوّلات الهائلة التي كان العالم مسرحاً لوقائعها منذ قرن ونيِّفٍ (الحروب الإمپرياليّة الكبرى على النّفوذ؛ تكوُّن الدّول الاتّحاديّة الضّخمة؛ نشوء التّكتّلات الاقتصاديّة الإقليميّة والأحلاف العسكريّة الدّوليّة؛ العولمة...)، سيجد نفسَه - لا محالة - أمام صورة جديدة للسّيادة غير تلك التي سادت لردْحٍ من الزّمن الحديثِ طويلٍ، فاقترنت في الوعي الجمْعيّ بمعنى محدَّد لمفهوم الدّولة الوطنيّة.

في مقابَلَةِ هذه الصّورة الجديدة، لن يسع تفكيرَه في مسألة السّيادة أن يخْرج عن إحدى فرضيّتيْن: أن يكون معنى السّيادة قد تعدَّل وتَبدَّل عمّا كانَهُ قبْلاً فبات المفهومُ يحتاج، بالتّالي، إلى إعادةِ تحديد تأخذ في الحسبان ما اسْتَجدّ عليه من عناصر وما تداعى منه وتَصَرَّم؛ أو أن تكون السّيادة، من حيث هي حالة سياسيّة ارتبطت بالدّولة الحديثة، قد انتهت تماماً ودَرَسَ رسْمُها. وقد لا يعدو التّفكير في هذه المسألة أن يقع بتوسُّل إحدى هاتين الفرضيّتيْن؛ إذْ هُما وحدهما اللّتان تدلُّنا الوقائعُ الجاريةُ على وجاهتهما، أو على قابليّتهما لأن تكونا مادّةً للتّفكير في معضلة السّيادة. أمّا أن تكون هناك فرضيّة ثالثة تفيد بأنّ مبدأ السّيادة مستمر الوجود ولم يطرأ عليه تغيُّر - وهي قطعاً فرضيّة موجودة - فإنّ العمل بمقتضاها لن يُطْلِع صاحبه على شيءٍ من واقع السّيادة اليوم؛ لذلك هي مستَبْعَدة القيمة الإِجرائيّة.

من النّافل القول إنّ مثل هاتين الفرضيّتيْن ما كان لِيَرِد على الذّهن في القرن الثّامن عشر أو القرن التّاسع عشر؛ حين كان معنى السّيادة مُنْشَدّاً إلى أصوله في نظريّة السّيادة ومعبِّراً عن نفسه في حيازة الدّولة إيّاها طبقاً لما قضت به معاهدة ويستفاليا. ومعنى هذا، ثانياً، أنّ للفرضيّتيْن المومأ إليهما زمناً خاصاً بهما هو الزّمن الواقع بين نهايات القرن التّاسع عشر واليوم؛ أي الزّمن الذي بدتْ فيه ملامح الوهن والتّراجع ترتسم على صورة السّيادة وتطرح الاستفهام، بالتّالي، حول مآلها. والحقُّ أنّ العمل بأيٍّ من الفرضيّتين لا يخلو من وجْهِ حُجّةٍ فيه، حيث القرائنُ على القول بها (الفرضيّة) والأسانيد كثيرة كَثْرَةً توحي للدّارس بأنّهما معاً فرضيّتان تتمتّعان بتكافؤ في الأدلّة. لنفحص عنهما قليلاً:

فأمّا أنّ معنى السّيادة تعدَّل كثيراً، في المئة عامٍ الأخيرة، فذلك ممّا يقوم على صحّته فائضُ الأدلّة: من الحروب، إلى التّبعيّة، إلى الشَّراكات الاتّحاديّة والإقليميّة، إلى عولمةٍ نزّاعةٍ إلى «توحيد» العالم بعد تدمير حدوده البينيّة...إلخ.

أمام هذا كلّه ما عاد يسَعُ دولةً في العالم - إلاّ القليل - أن تتحدّث عن سيادةٍ وطنيّة ناجزةٍ لها تحميها أو تأْمَن عليها من الغوائل. غير أنّ هذا التّعديل الطّارئ على معنى السّيادة لم يجد بعدُ تَنْظيرَهُ الضّروريّ، أو حاجتَهُ من تنظيرٍ يجعله مفهوماً في سياقه الجديد، ويرفع عنه المفارقة التي تلازِمه: بين وضعه النّظريّ الاعتباريّ (في نظريّة السّيادة) وواقعه الماديّ الذي يبدو فيه غيرَ مطابِق. ولعلّ أَظْهَرَ تبدُّلٍ في معنى السّيادة، اليوم، هو ذلك الذي يَكْمَن في عدمِ حيازةِ الدّولةِ السّلطةَ الأعلى على ما يقع في دائرة ميدان نفوذها؛ إذ هي غالباً ما بدتْ سيادةً معنويّةً أكثر منها ماديّة، وليس هذا بالقليل في شأن المتغيّر من دلالات المفهوم الذي كان يشير إلى سلطةٍ حصْريّة للدّولة لا يشاركها فيها أحد.

وأمّا أنّ السّيادة امَّحَتْ وجوداً فهذا يصْدُق على قسمٍ من العالم - كبيرٍ طبعاً - فيما لا ينطبق على قسمٍ آخر، أَلْبَتَّةَ، على محدوديّة عدد دوله. نعم، فَقَدَ الأَغلبُ الأعمُّ من بلدان العالم سيادَتَهُ وما عاد يملك أن يمارس سلطانَه على نفسه؛ وهذه هي حالُ الكثرة الكاثرة من بلدان الجنوب: التي كان مفعولُ عقودٍ من التّبعيّة قد أَفْقَرَها، سلفاً، إلى كلِّ سلطةٍ على نفسها قبل أن تأتيَ العولمةُ على البقيّة الباقية منها. أمّا مَن ظلّ يتمتّع بسيادته (الدّول الكبرى في النّظام الدّوليّ) فلم تُهَشِّشِ العولمةُ بنيان سيادته لأنّ العولمة، ببساطة، وطّدت ركائز سيادته القوميّة أكثر من ذي قبل بعد أن كانت من نتائج قوّة مشروعه القوميّ الفائض عن حدوده. إنّ قوًى مثل أمريكا والصّين واليابان والهند وروسيا وألمانيا والبرازيل ما زالت - حتّى إشعارٍ آخر- دولاً سيّدة على نفسها.. وعلى أقسامٍ من العالم حولها. وهكذا تختفي السّيادة هنا وتتعزّز هناك بعد أن كانت، في ما مضى، من أبجديّات الدّول ومن مستلزمات قيامها واستمرارها.

هل ما زالت السّيادة الوطنيّة ممكنةً إذن؟

نظريّاً ما تزال ممكنة مادام في وسْع دولٍ كبرى تحصيلُها وحمايتُها؛ وعمليّاً تحتاج إلى قوّة استراتيجيّة ترفدها، والقوّة هذه شاملة (عسكريّة، اقتصاديّة، علميّة، تكنولوجيّة)، ومن دونها لا تُحْفَظ سيادة في عالم اليوم.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.