تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هذا الغرب المنافق: أرمن ناغورني قره باغ أكثر من أزمة لاجئين

مصدر الصورة
وكالات

ندى حطيط

خلال أقل من 48 ساعة، حوّل هجوم أذربيجاني مفاجئ على الجمهوريّة المعلنة من طرف واحد في إقليم ناغورني قره باغ (آرتساخ وفق التسمية الأرمنيّة) عشرات الآلاف من السكان الأرمن إلى لاجئين، وأصبحت بقيتهم – حوالي سبعين ألفاً من أصل 120 ألفاً – في خطر داهم لاحتمال تعرضهم لتطهير عرقيّ، حتى وإن قبلوا العيش في ظلّ الحكومة الأذربيجانية.

وسارعت التّلفزيونات والصحف الغربيّة إلى نقل مشاهد عائلات بائسة، بينما تنتقل بما تيسّر لها من وسائل النقل البدائيّة اتجاه أراضي أرمينيا، وتحدّث خبراء عن «كارثة إنسانيّة» بالنّظر إلى محدودية قدرة أرمينيا الدولة الفقيرة الصغيرة (3 ملايين نسمة) على استيعابهم، وأبدوا تعاطفهم مع هؤلاء (المسيحيين) الذين طردهم (مسلمون)، وحذروا من حدوث مجازر وإبادات جماعيّة قيد الإعداد، لكن ردود أفعال الحكومات الغربيّة على الهجوم وتداعياته بدت في المقابل مشوشة، وغير صارمة، أقلّه مقارنة بمواقفها الحازمة تجاه العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا.

هذا التّناقض – الذي صار السّمة الغالبة على سلوك الحكومات الغربيّة – سيضاعف دون شك من اهتزاز ما يسمى بالنظام الدّولي، وسيضيف إلى عوامل زعزعة الاستقرار في منطقة معقدة عرقيّاً وجيوسياسياً، وسيفتح الباب لتطور مسار هجرة إضافي في اتجاه أوروبا، التي تشتكي من اللاجئين مرّ الشكوى.

الغرب يتحدث لغة واحدة: المصالح

كان في حكم المفهوم ضمناً أنّ إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين الجمهوريتين السوفييتيتين السابقتين، أذربيجان وأرمينيا، بمثابة (خط أحمر) لن يقبل الغرب من حكومة إلهام علييف في باكو عبوره، على أساس أن سكان الإقليم في أغلبيتهم الساحقة مسيحيون أرمن – يشبهوننا وفق نظام تقسيم البشر، الذي يعتمده الغرب في تصنيفه للشعوب – وأيضاً بحكم أن الحكومة الأرمينية في ياريفان موالية للغرب بشكل متزايد.

لكن الأوروبيين التزموا ما يشبه الصمت المخجل تجاه الهجوم الأذربيجاني الساحق، ولم تتجاوز تصريحات مسؤوليهم إلى نشرات الأخبار إطار (المفاجأة) والإعراب عن (خيبة الأمل). ويبدو أن موضوعة حماية الأقليّات (المسيحية) التي طالما وظفها الغرب للتدخل في شؤون المشرق سقطت مجدداً – كما سبق وسقطت في فلسطين وسوريا والعراق، ولعلها ستسقط في حال تعرّض مسيحيي لبنان للضغوط أيضاً – مقابل استمرار تدفق النفط والغاز من باكو.

كانت العجوز أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة (أي حكومة الاتحاد الأوروبيّ) المشهورة بسلاطة اللسان، بشأن حقوق الإنسان في روسيا والصين وكأنها ابتلعت لسانها العام الماضي عندما سافرت للقاء علييف في باكو لضمان إمدادات بديلة من النفط والغاز تعوّض تلك الروسيّة التي قرر الغربيّون مقاطعتها احتجاجاً على غزو أوكرانيا. وقتها لم تنبس فون دير لاين، ولو بكلمة واحدة بشأن حقوق الإنسان في ظل حكومة مضيفها (الديكتاتور) علييف وأتباعه، لا سيّما وأن هؤلاء يعيدون استثمار ما يحصلونه من ثروات في بنوك وعقارات أوروبيّة.

إن هذا الغرب كشف لنا مجدداً – وكما تكررت الشواهد التاريخيّة – لا يتحدث إلا بلغة واحدة: المصالح. وهكذا فإن كل شيء آخر مثل: حقوق إنسان، وحماية أقليات، وديمقراطيّة، وحق تقرير المصير. إلى آخر القائمة اللعينة إيّاها ليست سوى أدوات ابتزاز لتحصيل (خوّات) لا أكثر.

العالم الجديد: رقعة شطرنج

لقد تسببت الحرب في أوكرانيا بين روسيا من جهة والغرب بقيادة الولايات المتحدة من الجهة الأخرى في كسر صيغة انتهاء الحرب الباردة والتاريخ معاً بعد سقوط برلين (1989)، واندثار الاتحاد السوفييتي (1991) والتي منحت العالم نوعاً من الاستقرار تحت هيمنة الشرطي العالمي الأمريكيّ، الذي قد يسارع إلى تأديب مشاغب هنا أو اسقاط مشاغب هناك، لكن في ظل تفاهم عريض بين القوى الكبرى – النووية.

على أن الاستقطاب الذي أطلقته الحرب الأوكرانية حوّل هذا العالم إلى رقعة شطرنج على امتداد الكوكب، فيعمد الروسيّ إلى تحريك قطعة هنا فيرد عليه الغرب بنقلة هناك. ويبدو أنّ أرمن ناغورني قره باغ سيدفعون ثمن أحدث تلك النقلات.

نظريّاً، الهجوم الذي شنه الجيش الأذربيجاني محرج لموسكو، التي هي نظريّاً أيضاً، حليف للأرمن.

تساءل صحافيون في أحاديث متلفزة عمّا إذا كان نظام باكو الصلف قد استغلّ – بغض نظر غربيّ – فرصة انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا لإنجاز مشروع قديم لتوحيد الأراضي الأذربيجانية، يمتد عمره لأكثر من ثلاثة عقود، ليكون الهجوم، وفق ذلك نقلة غربيّة في اللعبة تحقق فتح نافذة إزعاج لروسيا في جبهة أخرى غير أوكرانيا، فتشتت جهودها. لكن وجود قوات حفظ السلام الروسيّة (2000 جندي) في مواقع عدة تغطى أغلب ناغورني قره باغ يدفع لاستبعاد ذلك السيناريو، لمصلحة احتمال وجود تواطؤ بين موسكو وباكو، ما يجعل من الهجوم على مستوى ما نقلة استراتيجيّة روسيّة، إذ ليس هناك ما هو أفضل من أزمة لاجئين جديدة تضع النظام الأرمني الموالي للغرب في زاوية حرجة – وقد تؤدي إلى سقوطه لمصلحة نظام جديد يكون أكثر تعاطفاً مع روسيا – وفي الوقت ذاته إزعاج أوروبا بقوافل جديدة من اللاجئين الباحثين عن أوطان بديلة في «الحديقة الأوروبيّة» – وفق تعبير جوزيب بوريل، كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبيّ.

القوقاز برميل بارود يبحث عمن يشعله

مهما كان من أمر الهجوم الأذربيجانيّ، أكان نقلة غربيّة أم لعبة روسيّة، فإن إقليم القوقاز برميل بارود جاهز للتفجير وينتظر من يشعل فتيله، وخاصة إذا قرر علييف المنتشي بالنصر الصادم الذهاب بعيداً والاستيلاء على أراضٍ داخل أرمينيا نفسها.

وعلينا ألاّ نتغافل، أن هذه المنطقة نقطة تقاطع نفوذ عدد من اللاعبين، تبدأ قائمة أسمائهم بموسكو وواشنطن طبعاً، لكنها تمتد لتشمل آخرين: إيران وتركيا في دائرة أولى، ثم الصين والهند والكيان العبريّ في دائرة ثانية، ولا تنتهي بالضرورة عند الأوروبيين. وليس في رصيد أيّ من هؤلاء تردد معروف في التضحية بالمدنيين على مذبح المصالح الاستراتيجيّة.

هذا البرميل في حال انفجاره ستكون تداعياته أبعد من حدود الإقليم وأكثر من مجرد أزمة لاجئين، أو حتى حملة تطهير عرقيّ لمن تبقى من أرمن ناغورني قره باغ. فأوروبا اليوم تعيش أزمة لاجئين حقيقيّة لدرجة أن ألمانيا بصدد إغلاق حدودها مع بولندا، وشدد الفرنسيون من إجراءاتهم على الحدود مع إيطاليا، فيما تعتزم الأخيرة الشروع في ترحيل المهاجرين الذين يصلون إليها، وتعمد لندن بدورها إلى تحدي الاتفاقيات الأممية حول استقبال اللاجئين. ولا شك أن تدفّق عشرات آلاف اللاجئين الجدد اليائسين من جهة القوقاز سيتسبب بمزيد من الخلافات بين الأوروبيين، ويزيد الضغوط على حكوماتهم لمصلحة التيارات اليمينية المتطرفة، وقد ينتهي إلى ثلم وحدة الشركاء في الاتحاد الأوروبي لمصلحة استراتيجيّات محليّة.

الأمور ما زالت في بداياتها، وليس جليّاً إلى أين ستمضي تالياً، لكن المؤكد الوحيد أن انفجاراً في القوقاز يعني ناراً على أعتاب أوروبا، وأن لذلك أثماناً ستدفعها الشعوب الأوروبيّة التي أُكلت يوم ولّت أمرها سياسيين قصيري النظر من أمثال العجوز فون دير لاين.

مصدر الخبر
القدس العربي

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.