تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ألمانيا بين الهند والصين

مصدر الصورة
عن الانترنيت

الحسين الزاوي

تواجه ألمانيا صعوبات كبيرة لإعادة توجيه علاقاتها السياسية والاقتصادية خارج المنظومة الغربية، وبخاصة مع الصين وروسيا، نتيجة للتحّولات الجيوساسية الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا التي أجبرتها على إعادة حساباتها في ما يتعلق بتعاملها مع القوى الكبرى في الشرق، سواء من خلال تخليها عن موارد الطاقة الرخيصة المستوردة من روسيا، أو من خلال سعيها إلى تقليص نسبة ارتباط اقتصادها بالاقتصاد الصيني، حيث أصدرت الحكومة الألمانية منشوراً في تموز الماضي، تؤكد من خلاله أن الصين تحوّلت إلى منافس نظامي ودائم لألمانيا، الأمر الذي يجبرها على اتخاذ التدابير اللازمة لتقليص الآثار السلبية المرتبطة بما أصبح يعرف بالخطر الاقتصادي الصيني.

وبالتالي فإن المستشار الألماني شولتز كان من أشد المتحمّسين خلال قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في نيودلهي، للمشروع الذي رعته واشنطن من أجل تطوير شبكة المواصلات التي من المفترض أن تربط بين الهند وأوروبا، مروراً بمنطقة الشرق الأوسط، لتسهيل حركة التجارة مع الهند، وتقليص تبعية الاقتصاد الأوروبي، وتحديداً الألماني، لسلاسل التوريد والتصدير من وإلى الصين.

وكانت واشنطن تتفاوض في الكواليس منذ كانون الثاني 2023 مع الهند والسعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى، بهدف التوافق على العقد الذي جرى إبرامه يوم 9 أيلول بين الهند ودول من الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي، من أجل الربط ما بينها بشبكة من طرق السكك الحديدية والموانئ. وقد مثّل هذا الاتفاق دعماً مباشراً لنتائج الزيارة التي قام بها المستشار الألماني في 25 فبراير/شباط الماضي إلى الهند، لمضاعفة المبادلات التجارية مع نيودلهي في سياق الجهود الغربية الساعية إلى جعل الهند بديلاً للصين في ما يتعلق بسلاسل التوريد وأسواق التصدير.

ويمكن القول إن ألمانيا تعدّ من أشد الدول الأوروبية حرصاً على تطوير الشراكة الاقتصادية مع الهند، لأسباب جيوسياسية وتجارية واضحة، إضافة إلى الأسباب الحضارية التي تربط الثقافة الجرمانية بالهند، فقد كان هناك منذ القرن الثامن عشر افتتان من قبل المفكرين الألمان بسحر الشرق والروابط التاريخية التي تجمع بين أوروبا والشعوب الجرمانية، بالتراث الهندي القديم، وقد عمل الباحثون الألمان في القرن التاسع عشر على إبراز الصلات التي تربط عائلات اللغات الأوروبية، لاسيما الجرمانية منها، باللغة الهندية القديمة، نظراً لتأثّر هذه العائلات بالبنيات التركيبية لقواعد اللغة السنسكريتية، وعليه فإن الألمان يشعرون بأن ما يربطهم بالهند هو أكبر بكثير ممّا يربطهم بالصين.

بيد أن هذا التوجه نحو الهند لا يعني بالضرورة تخلي ألمانيا عن علاقاتها الاستراتيجية مع بكين، إذ لا يمكن للمبادلات التجارية بين الهند وألمانيا أن تصل إلى مستوى مبادلات برلين مع الصين، حيث تعد هذه الأخيرة أول مورِّد لألمانيا في العالم من المواد الأولية بنسبة تتجاوز 45%، ولا يمكن من ثم لبرلين أن تستبدل الصين كمصدر أساسي للكثير من المواد الخاصة بالصناعات الكيميائية والتكنولوجية، لاسيما بالنسبة إلى المعادن التي تسمى بالأتربة النادرة. وتشير التقارير، على الرغم من ذلك، إلى أن المؤسسات الاقتصادية الألمانية من المنتظر أن تواجه خلال السنوات المقبلة ضغوطاً من قبل الحكومة، لتقليص تبعيتها تجاه الصين، وتنويع سلاسل التوريد والبحث في السياق نفسه عن أسواق بديلة للسوق الصينية، تحسباً لتطورات جيوسياسية قد تفرض على ألمانيا توقيف تعاملها مع بكين كما حدث مع موسكو.

ونستطيع أن نزعم بناءً على ما تقدم أنه ورغم المغريات الاقتصادية المدعومة بالروابط الثقافية القديمة التي نلفيها بين الهند وألمانيا، فإن برلين ومعها كل دول الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً، لا تستطيع أن تنفصل عن الاقتصاد الصيني، فهناك حالة من التبعية المتبادلة بين الجانبين، ولا يمكن للاقتصاد الهندي أن يصبح، في المرحلة الراهنة على الأقل، بديلاً حقيقياً للاقتصاد الصيني الذي يتجاوز ناتجه الداخلي الخام قرابة 5 أضعاف الناتج الداخلي الهندي.

ومن غير المستبعد، في السياق نفسه، أن تُنتج تفاصيل التاريخ والجغرافيا الآسيوية المعقدة تطورات مفاجئة قد لا تكون في مصلحة ألمانيا والغرب، وذلك علاوة على أن المخاطر التي تواجه المجتمع الهندي المتعدّد الأعراق والأديان هي أكثر بكثير من تلك التي تواجه المجتمع الصيني على المديين المتوسط والبعيد.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.