تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يكتب .... الهند وباكستان نقطة غيثٍ لإطفاء صيفٍ حارٍّ

مصدر الصورة
خاص

خلال مقابلةٍ أجريتها قبل عقدين من الزّمن مع وزير خارجية الهند آنذاك جاسوانت سينغ، سألته عن العلاقات المتوتّرة مع جارته باكستان وكيفية نزع فتيل أزمةٍ سبّبها الانفصال في شبه القارة وكان ردّه لي "لا يمكنك أن تختار جارك، وعليك أن تجد طريقةً للتّعايش معه".

ولو نظرنا إلى البيان المشترك الأخير بين قيادتي جيشي البلدين لوجدنا أنّ كلا الطّرفين قد أكّد على ضرورة الالتزام بالاتّفاقيات الموقّعة بينهما، خاصّةً هدنة وقف إطلاق النار الموقّعة عام 2003، وإبقاء الخطوط السّاخنة مفتوحةً بين القادة العسكريّين للتّعامل مع أيّ حالةٍ طارئةٍ. وسبق أن وقّع الجانبان على اتّفاقٍ مشابهٍ عام 2018، لكنّ البيان المشترك  هو الأوّل بعد انقطاعٍ دام أكثر من 8 سنواتٍ تخلّله أزماتٌ ونزاعاتٌ ومناوشاتٌ حدوديّةٌ متكرّرةٌ زادت من حدّة التّوتّر بين الجارتين اللّدودين وتفاقمت منذ عام 2015، وتسلّم حزب بهارتيا جاناتا القوميّ الهندوسيّ زمام السّلطة المركزيّة في الهند، واحتدّت المواجهات، مع اتّهام نيودلهي إسلام آباد بالوقوف وراء عملياتٍ إرهابيّةٍ متكرّرةٍ ضدّ الهند في الإقليم الكشميريّ المضطرب، وجرت انتهاكاتٌ لهدنة وقف إطلاق النّار على طول خطّ التّماس في إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه وسط اتّهاماتٍ متبادلةٍ بين الأطراف بانتهاك الهدنة ووقوع ضحايا من المدنيّين والقوات المرابطة من الطّرفين. وتفاقمت الأوضاع بعد قيام الهند بإلغاء المادّة 370 من الدّستور الهنديّ التي كانت تمنح إقليم جامو وكشمير استقلالاً ذاتيّاً، ووضع جميع القادة الكشميريّين قيد الإقامة الجبريّة، وتصعيد الحملة العدائيّة ضدّ باكستان عالميّاً، والضّغط عليها اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً. وجاءت أزمة فيروس كورونا لتلقي بظلالها على دول المنطقة، واتّخذت الهند من دبلوماسيّة اللّقاح خطوةً لتعزيز التّقارب من جديدٍ مع جيرانها وتثبيت نفوذها في خليج البنغال والمحيط الهندي بقيامها بمدّ دول الجوار بشحناتٍ مجانيّةٍ من اللّقاح الهنديّ وزيارةٍ مكّوكيّةٍ لمسؤولين هنود للتّأكيد على العلاقات بين دول الجوار وحرص نيودلهي على توطيدها وتعزيزها من خلال التّعاون المشترك بالمجالات كافّةً.

بوادر الانفراج

تفاجأ كثيرٌ من المراقبين السّياسيّين بالتّودّد بين الجارين اللدودين بعد فترةٍ من الجفاء والعداء زادت من الشّرخ بينهما، ولكنّ هذا التّقارب والبيان المشترك جاء بعد سلسلةٍ من المؤشّرات الإيجابيّة التي مهّدت للتّوصل إليه من خلال الحديث عن مباحثاتٍ سرّيّةٍ بين مسؤولين من البلدين وتواصلٍ بين مستشاريّ الأمن القوميّ لكلا البلدين، ولقاءٍ في دولةٍ ثالثةٍ وإن تمّ نفي ذلك، لكنّ مصادر مطّلعةً أكّدت أنّ دبلوماسيّة  ماوراء الكواليس كانت نشطةً لعدّة أشهرٍ، وكانت تصريحات مسؤولين من البلدين بين الحين والآخر إيجابيّةً، ومن بينها مشاركة سكرتير وزارة الصّحّة الباكستانيّ في الاجتماع الافتراضيّ لمواجهة جائحة كورونا لمسؤولين من رابطة دول جنوب آسيا للتّعاون الإقليميّ المعروفة بالسارك، رافقتها تصريحاتٌ إيجابيّةٌ للقائد العامّ للجيش الباكستانيّ، الجنرال قمر جاوييد باجوا، وما تبعها من سماح الهند لطائرة رئيس الوزراء الباكستانيّ بعبور الأجواء الهندية في طريقه إلى سيريلانكا. وذهب البعض للقول بأنّ الأوضاع الدّاخليّة في الهند، وإضراب المزارعين الهنود، وحملة الاحتجاجات ضدّ سياسة الحكومة الهنديّة تجاه المزارعين، وحملة الاعتقالات التي تمّت ضدّ نشطاء مواليين للاحتجاجات خلّفت آثاراً سلبيّةً على سمعة الهند عالميّاً، وتمّ اتّهامها بكبح حرية الرّأي والتّعبير وقمع الخصوم السّياسيّين .

ولعلّ من الأسباب الرئيسيّة لتخفيف حدّة التّوتّر بين الجارين اللّدودين، مع الإبقاء على التّعزيزات العسكريّة على كلا الحدود بين البلدين، هو وصول الرّئيس الأمريكيّ جو بايدن إلى البيت الأبيض، وقرب الانسحاب الأمريكيّ من أفغانستان بعد المباحثات، والاتّفاق مع حركة طالبان، الأمر الذي زاد من المخاوف الهنديّة من عودة حركة طالبان إلى السّلطة في أفغانستان واحتمالات إحياء التّنظيمات الإرهابيّة، خاصّةً المعادية للهند. وجاءت الخطوة الهنديّة أيضاُ بعد خطوةٍ مماثلةٍ لنزع فتيل النّزاع مع جارتها الصّين في جبال الهيمالايا، التي تربطها حدودٌ على طول 4000 كم تقريباً، وسعى الجانبان إلى تخفيض الارتباط على طول خطّ السّيطرة الفعليّ في جبال الهيمالايا بعد اشتباكاتٍ بين قوّات البلدين سبّبت في تأزّم الأوضاع بين عملاقي آسيا. وأدّى تخفيض الارتباط في منطقة لاداخ إلى عودة المياه تدريجيّاً للعلاقات بين البلدين، ورسم قلاع محصّنةٍ وبنيةٍ تحتيّةٍ متينةٍ على الحدود بينهما، بالاضافة إلى وضع استراتيجيّةٍ جديدةٍ لهذه العلاقات. وكثُرَ الحديث الآن عن موافقة الهند على قرابة خمسين مشروعٍ استثماريٍّ صينيٍّ في الهند سوف يوفر فرص عملٍ جديدةٍ ويدعم القطّاع الصناعيّ الهنديّ، وهناك خطواتٌ لإعادة بناء الثّقة المفقودة بين الدّولتين مع السّماح بزيادة الاستثمارات الصّينيّة، وفتح العديد من القطّاعات الهنديّة "غير الحسّاسة"، والدّخول في منافسةٍ مع الصّين في مجالات التّكنولوجيا، والبحث عن أسواق جديدةٍ بدلاً من سياسة المحاور المعادية والمقاطعة المفتعلة.

قطرة ماءٍ لا تذيب الثّلج في الهيمالايا ولكن

إنّها السّياسة في مواصلة النّزاعات بطرقٍ أخرى على الأقلّ، كما قال كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب: "الحرب ليست سوى مبارزةٌ على نطاقٍ واسعٍ ... عملٌ عنيفٌ يهدف إلى إجبار خصمنا على الوفاء بإرادتنا"، موجّهاً بدوافع سياسيّةٍ وأخلاقيّةٍ. و يجادل كارل فون كلاوزفيتز بأنّ الحربَ ظاهرةٌ تتكوّن من ثلاثة عناصر مركزيّةٍ أو ميول سائدةٍ. هذا الثلاثي هو علاقةٌ متناقضةٌ "تتكوّن من العنف البدائيّ والكراهية والعداوة. . ويحدّد كلاوزفيتز "الخطر والمجهود البدنيّ والذّكاء والاحتكاك كعناصر تتّحد لتشكّلَ جوّ الحرب وتحوّلها إلى وسيطٍ يعيق النّشاط"...

ولذا هناك قناعةٌ بأنّ حكمة جبال الهيمالايا سائدةٌ و لا حرب في الأفق بين الدّول المشتركة بالحدود في جبال الهيمالايا مهما كانت الادّعاءات السّياسيّة الموجّهة، ولابدّ من تحقيق الأهداف المرجوّة، بعيداً عن الدّعم الخارجيّ، بالحنكة والسّياسة العقلانيّة المتجرّدة من دوافع خليطةً من التطرّف والشّوفينيّة  والغريزة العمياء المليئة بالعداوة والحقد والكراهيّة والبغض والحسد والغيرة .

وإذا كانت الحكمة والعقلانيّة هي السّائدة بالبحث عن حلٍّ دائمٍ بين الدّول المتنازعة قد يرسم خطوطاً دائمةً تمنع أعدائها من استغلالها لشنّ حروبٍ بالوكالة، خاصّةً وأنّ سياسة بايدن تركّز نحو آسيا باسيفيك ، وتحتاج الهند لتلعب دوراً أكبر في الرّباعية التي تجمع الولايات المتّحدة واليابان والهند وأستراليا، بينما تحتاج باكستان لأهميّتها الاستراتيجيّة والتّهديدات الاستراتيجيّة للمصالح الأمريكيّة في المنطقة، خاصّةً دول الجوار - أفغانستان وإيران - بالاضافة إلى ثقلها الدّينيّ في العالم الإسلاميّ.

وبالنّسبة للهند، فإنّه لن يكون بمقدورها فتح جبهتين بآنٍ واحدٍ بين جارين متربّصين، وبالتّالي  فإنّ العودة إلى المسار الطّبيعيّ مع باكستان بدأ، وهناك مؤشّراتٌ إيجابيّةٌ للمزيد من الخطوات في هذا الاتّجاه، وإن كان ذلك  سوف يستغرق وقتاً طويلاً لعدّة أسبابٍ داخليّةٍ وجيوسياسيّةٍ، وتلقي التّقلّبات الإقليميّة بظلالها على مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة مع تفاقم أزمة الأوضاع الاقتصاديّة بسبب جائحة فيروس كورونا وما سبّبته من شللٍ في معظم القطّاعات، بالاضافة إلى ضرورة الاستقرار في أفغانستان والتّوافق بين الأطراف المتناحرة بتقاسم السّلطة واحترام الدستور.

ويتوجّب على البلدين إيجاد أرضيّةٍ مشتركةٍ بينهما للتّعايش السّلميّ، باعتبار أنّ اختيار الجار ليس طوعيّاً، ولكنّ الأمن والسّلام والعيش المشترك خياراتٌ يمكن للقادة أن يستوعبوها ويطّبقونها بما فيه مصلحة شعوبهم والارتقاء بهم إلى المستوى المنشود .

                       الدّكتور وائل عواد

        الباحث السوري والمتخصّص بالشؤون الآسيوية 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.