تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يكتب عن اتفاقية الشراكة الآسيوية الجديدة ..مسرح الشّرق وجغرافيّة  الشّراكة الاقتصاديّة الآسيويّة

مصدر الصورة
خاص

أهدت الصّين  إلى الرّئيس الأمريكيّ المرتقب، في الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثّاني من العام الجاري، هديّةً تتمثّل باتّفاقيّة الشّراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشّاملة (RCEP)، فحافظت على  إطارٍ للاستثمار  وهي "تغطية الرّكائز الأربع للتّعزيز والحماية والتّسهيل والتّحرير"، وذلك خلال القمّة السّابعة والثّلاثين لرابطة الآسيان، والتي تمّ التوصّل إليها بعد ثمان سنواتٍ من النّقاش والجدل بين خمسة عشر دولةً تضمُّ دول رابطة جنوب شرق آسيا المعروفة بالآسيان واليابان وكوريا الجنوبية  وأستراليا ونيوزلندا بالإضافة إلى الصّين. وتعدّ هذه الاتّفاقيّة أكبر اتّفاقيّةٍ تجاريّةٍ إقليميّةٍ في العالم حتّى يومنا هذا. وتشكّل هذه الدّول 30% من الاقتصاد العالميّ، ويبلغ تعداد سكّان الدّول الأعضاء ثلث سكّان العالم أي قرابة 2.21 مليار نسمةٍ.

 ويعدُّ هذا التّكتّل التّجاريّ الضخم  بمثابة رسالةٍ للعالم حول الدّور الرّياديّ الذي تقوم به الصّين في قيادة  القرن الآسيويّ عبر التّكامل الاقتصاديّ الطّبيعيّ بين دول المنطقة، وإعطاء معاملةٍ تفضيليّةٍ للتّجارة للدّول الأعضاء في العديد من القطّاعات، وأخذ زمام المبادرة في تحرير وتشكيل بنيةٍ جديدةٍ للتّجارة العالميّة، ويتضمّن أحكاماً وقوانين بشأن الملكيّة الفرديّة والاتّصالات وقطّاع الخدمات، وإن لم تكن واضحةً بعد. وتركت الاتّفاقية الباب مفتوحاً أمام الهند لإعادة النّظر والانضمام إلى هذه الاتفاقية خلال السّنتين القادمتين. وبغضّ النّظر عن الانتقادات لهذه الاتّفاقيّة بأنّها لم تعالج قضايا حسّاسةً مثل الملكيّة الفرديّة، وحقوق العمّال، وأنّها رمزيّةٌ أكثر من كونها فعليّةً، إلّا أنّ المراقبين والخبراء الاقتصاديّين يؤكّدون أنّها انتصارٌ للتّحديث والتّجارة الحرّة وإلغاء الحمائيّة وتعزيز الاستثمار والسّماح بحريّة تنقّل البضائع، وسوف تدفع بعجلة النّموّ الاقتصادي داخل الدّول الأعضاء والبحث عن أسواقٍ جديدةٍ لترويج بضائعهم ومنتجاتهم  في ظلّ ركودٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ تفاقم مع انتشار جائحة فيروس كورونا، وأنّ العالم لن ينتظر تعافي اقتصاد الولايات المتّحدة.

المخاوف الهنديّة  والامتناع عن الانضمام

لا شكّ بأن انضمام الهند لهذه الاتّفاقيّة سيعطي زخماً ضخماً وتوازناً طبيعيّاً للقيادة المشتركة لعمالقة آسيا لما بات يعرف بالقرن الآسيويّ، لكنّ  الهند تواجه تحدّياتٍ جمّةً، إذ تركّز على الاستثمار المحليّ لتنشيط اقتصادها وقطّاع التّصدير الضعيف أصلاً، والذي تأثّرسلبيّاً كباقي الدّول بجائحة كورونا. وانسحبت  الهند من المفاوضات العام الماضي، وامتنعت عن التّوقيع على الاتفاقيّة باعتبار أنّها لم تأخذ بعين الاعتبار التحفّظات الهنديّة مثل حماية مصالحها الصّناعيّة والزّراعيّة ومصالح عمّالها وإعطاء ميّزةٍ لقطّاع الخدمات في البلاد، وبالتّالي رأت الهند أنّ الاتّفاقية لاتعالج هذه القضايا، إضافةً إلى الخوف من أن تضرّ بالمصالح الاقتصاديّة الهنديّة وألّا تستفيد من الاتّفاقيّات الثّنائيّة الموقّعة بين الدّول الأعضاء، إذ ثمّةَ عجزٌ في الميزان التّجاريّ مع 11 دولةً من أصل 15 دولةً أعضاء في الاتّفاقيّة، كما أنّها تسعى إلى تقوية اقتصادها ودخول السّوق العالميّة بأوراقٍ للّعب، وليس كسوقٍ للآخرين فقط، كما صرّح وزير الخارجيّة الهنديّ د.جايشانكر تعليقاً على امتناع الهند عن التّوقيع على اتّفاقيّة الشّراكة.

ولكن، بعيداً عن الحجج والذّرائع والتّداعيات الاقتصاديّة، فإنّ السّبب الأساسيّ بنظر العديد استراتيجيٌّ، وقد خفّف من حماس الهند للانضمام، ألا وهو الصّين التي تتنازع معها على رسم الحدود بينهما. وقد وقعت مناوشاتٌ حدوديّةٌ في جبال الهيمالايا زادت من المخاوف الأمنيّة الهنديّة، وفضّلت نيودلهي مقاطعة البضائع الصّينيّة لعدم وجود تدابير حمايةٍ كافيةٍ ضدّ الزّيادات الحادّة في الواردات، وبالتّالي فإنّ هذه الاتّفاقيّة قد تسمح لبعض الدّول التّخلّص من فائض إنتاجها عن طريق توجيهها عبر دولٍ أخرى تتمتّع بتعريفاتٍ جمركيّةٍ أقلّ. وكانت الصّين قد أغرقت الأسواق الهنديّة العام الفائت ببضائع تجاوزت 60 مليار دولارٍ. وتعتبر الهند أنّ الاتّفاقيّات الثّنائيّة بين الدّول الأعضاء وحريّة التّجارة تضاهي بأهميّتها اتّفاقيّة الشّراكة الجديدة، وتركّز على الرّباعيّة التي تضمّ الولايات المتحدة الأمريكيّة واليابان وأستراليا؛ ولذلك أبقت اليابان الباب مفتوحاً أمام الهند  لإعادة النّظر والدّخول في الاتّفاقيّة  في المستقبل القريب وحضورها حاليّاً كدولة مراقبةٍ.

الدّور الرّيادي للصّين

من الطّبيعيّ أن يكون هناك تكاملٌ اقتصاديٌّ إقليميٌّ بين دولٍ تربطها جذورٌ تاريخيّةٌ ومصالح مشتركةٌ على الرّغم من الخلافات السّياسيّة والقضايا الأمنيّة، ودول الآسيان التي تملك اقتصاديّاتٍ مرنةً خير مثالٍ على ذلك، فقد عُرفت هذه الرّابطة بالنّمور الآسيويّة، والتي تضمُّ كلّاً من أندونيسيا وماليزيا وبروناي وتايلندا  والفلبين وميانمار وسنغافورة وفيتنام ولاوس وكمبوديا. وبالتّالي فإنّ الانضمام لهذه المجموعة  إلى جانب دولٍ حليفةٍ للولايات المتّحدة منها اليابان وكوريا الجنوبيّة وأستراليا يشكّل مكسباً كبيراً للصّين، وسوف يعزّز من التّعاون الاقتصاديّ والتّجاريّ. أضف إلى ذلك أنّ القيادة الجماعيّة للشّراكة من قبل رابطة الآسيان كقوّةٍ دافعةٍ سوف تساهم في تحرير تجارة السّلع والخدمات، وتدفّق الاستثمار، وتخفيف حدّة التّوتّرات والخلافات السّياسيّة بين الدّول الأعضاء، ولعلّ هذا من الأولويّات التي تريد بكّين تحقيقها في تعزيز مكانتها كشريكٍ اقتصاديٍّ، والدّخول في معاهدة استثمارٍ مع الاتّحاد الأوروبيّ، والتوصّل إلى اتّفاقيّةٍ للتّجارة الحرّة مع اليابان وكوريا الجنوبيّة. وتحاول بكّين تغيير لهجتها واستراتيجيّتها تجاه دول المنطقة والعالم في ظلّ قيادة الرّئيس - شي جين بينغ - بعد زيادة حدّة الانتقادات ضدّ الحزب الشّيوعيّ الصّينيّ واتّهام الصّين بالوقوف وراء انتشار جائحة فيروس كورونا. وبالتّالي تبذل الصّين جهوداً إضافيّةً لتضييق الخلافات مع بعض الدّول الأعضاء  من جهةٍ، وتعزيز التّعاون، وعدم استغلالها من قبل أطرافٍ خارجيّةٍ لإشعال الفتنة مع الصّين، وهذا ماحاولت الصّين تحقيقه مع الهند لإقناعها بالانضمام قبل نشوب النّزاع الحدوديّ بينهما.

أبعاد الاتّفاقيّة على مصالح الولايات المتّحدة

  بدأت الولايات المتّحدة تنسحب من الاتّفاقيّات التّجاريّة الدّوليّة وتتوجّه نحو الدّاخل الأمريكيّ لإعادة بناء هيكلة اقتصادها وإنعاشه من جديدٍ ضمن سياسة الانطواء الأمريكيّة  هذه التي بدأها الرّئيس دونالد ترامب، إذ انسحب من اتّفاقيّة الشّراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) والتي كانت لمضاهاة النّفوذ الصّينيّ، وقد يصعب على الرّئيس الأمريكيّ الجديد العودة إليها لأنّها لا تعدُّ من أولويّات الإدارة الأمريكيّة الجديدة.

وبدورها، سارعت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا بدعوة الإدارة الأمريكيّة الجديدة للإسراع بتنشيط الاتّفاقيّات الاقتصاديّة والتّجاريّة  التي تربط بين القارّتين الآسيويّة والأوربيّة، والوقوف إلى جانب الإدارة الجديدة في مواجهة التّحدّيات الصّينيّة المتزايدة. ويجادلُ البعض أنّ هذه الاتّفاقيّة لن تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على الخلافات التّجاريّة العميقة بين الولايات المتّحدة والصّين .

لا شكّ بأنّ الولايات المتّحدة بدأت تفقد نفوذها الاقتصاديّ العالميّ، وهذه الاتّفاقيّة سوف تعزّز من دور الصّين الرّياديّ لملء الفراغ الأمريكيّ في المنطقة، وربط اقتصاديّات الدُّول بخطّتها، والتي أصبحت أكثر قرباً للاستراتيجيّة الصّينيّة في تنفيذ مبادرة حزامٍ واحدٍ - طريقٍ واحدٍ دون عوائق تذكر، بينما سوف تواجه الشّركات الأمريكيّة عوائق في بيع منتجاتها وتسويقها داخل هذه الأسواق الأكثر تطوّراً، وتميل لصالح المستهلك. وبالتّالي فإنّ التّحدّيات الاقتصاديّة ستكون جمّةً على إدارة الرّئيس الأمريكيّ الجديد، وقد يعيد التّفكير باتّفاقيّة شراكةٍ شاملةٍ عبر المحيط الهادئ على الرّغم من التّحفّظات الأمريكيّة حول حريّة التّجارة والاستثمار في الدّيمقراطيّات، وإثارة قضايا الدّيمقراطيّة وحريّة التّعبير وحقوق الإنسان لابتزاز الدّول المعارضة للسّياسة الأمريكيّة وهيمنتها العالميّة.

وسوف تدخل اتّفاقيّة الشّراكة حيّز التّنفيذ بعد أن تصادق عليها ستّ دولٍ أعضاء في رابطة الآسيان، وثلاث دولٍ من خارجها، وهذا سوف يعجّل من توفير الحوافز للشّركات المحليّة في الدّول الأعضاء للانتعاش والبحث عن أسواقٍ جديدةٍ، وبالتّالي إنعاش معدّل الدّخل القوميّ وتحسين الأداء الاقتصاديّ للدّول الأعضاء على الرّغم من مخاوف بعض الدّول الصّغيرة داخل الشّراكة .

ويبقى التّساؤل هنا أين الدّول العربية من هذه الاتّفاقيات وماذا تعني لها هذه الشّراكة و بعدها وتأثيرها على مستقبل التّعاون التّجاريّ والاقتصاديّ، وهل هناك استراتيجيّةٌ ووجهة نظرٍ عربيّةٌ شاملةٌ لمستقبل العالم العربيّ إن وجدت...  واعجبي !

                              الدّكتور وائل عوّاد

           الكاتب والصّحفي السوري المتخصّص بالشّؤون الآسيويّة

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.