تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

  د.وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا ويوميّات قناص كركرونا  أحلامنا  لن تموت  - مَن حرق شجرتنا؟! – 64  -

مصدر الصورة
خاص

تمّ رفع الإغلاق التامّ في الهند، وأصبح الخروج من المنازل طوعيّاً، ولكن لم تعد عملية الخروج من المنزل ممتعةً كما كانت قبل جائحة كورونا، ليس لأنّه من الصّعب التأقلم مع المستجدّات، ولكن بسبب الخوف ممّن لا يلتزم بها، إذ تصبح عرضةً للإصابة من مستهترٍ مصابٍ أو حاملٍ للفيروس. وترى التجمّعات في الأسواق والطّرقات مخيفةً، وقلّةٌ من النّاس يلتزمون بارتداء الكمّامة، أو ربّما يقتصر الأمر على منديلٍ أوقطعة قماشٍ وحتى الاقتصار على  الشّال لتغطية الأنف والفم . وترى الوجوه متعبةً والأنفاس ضائقةً والبحث عن لقمة العيش في هذه الظّروف القاسية من العوامل التي تجعلك صامتاً، فلا تعلّق على ماتراه، وتتابع مشوارك.

كان الخروج الأوّل لي إلى الحديقة القريبة، وحاولت الابتعاد عن التجمّعات وممارسة رياضة المشي بين الأشجار الضّخمة التي يعود عمرها لعشرات السنين وتلقي بظلالها على العشب الأخضر والزّهور المتفتّحة بعد يومٍ ماطرٍ في فصل  الأمطار الموسميّة حيث تهطل الأمطار الغزيرة  وتُغرق الطّرقات والمنازل كلّ عامٍ.

مازلت أقبعُ بين اليقظة والنّوم وأنا مشتّت الذّهن عاجزٌ عن التّركيز في رسم الأولويّات لهذا اليوم الجميل. هربتُ إلى الحديقة بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ أُرتّب فيه أفكاري وأنزع من مخيّلتي قسريّاً فقاعاتٍ سوداءَ أفجّرها في هذا الجوّ الطّبيعيّ بينما ألجأ إلى ركنٍ هادئٍ  لانتصر على الأفكار الحزينة وحالة التشتّت الذّهنيّ، وحاولت أن أضمّ شجرةً لدقائق وتمشّيت بين الأشجار لفترةٍ زمنيّةٍ لابأس بها، ومن ثمّ جلستُ تحت جذع شجرة الكينا أتفيّأ بظلّها وأنا أتأمّلها وأحدّق بهذه الجذوع  الضّخمة التي غُرِست في الأعماق وتحتلّ مساحةً لابأس بها وشعرت بنعاسٍ شديدٍ وقررت أن آخذ قيلولةً في هذا الهواء الطّلق. جاء بالقرب منّي بائعٌ الشيبس (رقائق البطاطس) والماء وأشرت له بيدي ألّا يقترب فلست بحاجةٍ لذلك وزجاجة الماء بجانبي وانا أستمع لأصوات العصافير وحفيف الأغصان وصوت أوراق الشّجر التي كان يقفز عليها سنجابٌ صغيرٌ يحاول الحصول على قطعةٍ طعامٍ من كيس الشّيبس الذي بحوزتي، ورميت له البطاطس التي أيقظت دفء الشّعور من خزائني الجوزيّة وذكريات الجذوع العتيقة في غابات بلادي، ونظّفت مكاني من الأشواك والأوراق الجافّة أتوق إلى السّكينة والأمان  طليق الفكر والرّوح، وغرقت في سباتٍ عميقٍ ...

        ديروا بالكم خلّيكم مع المجموعة لا تنفردوا ياماما وتروحوا بعيد...

        ان شاء الله ياأمّي لا تخافي! المدرّسون معنا والرّحلة مدرسيّةٌ...

        لا تسبحوا بالبحر، أوعى ها! خلّيكم على الشّاطئ، الله يرضى عليكم.

        ان شاء الله يا أمّي ...

        شفتوا في حوادث كثيرةٍ لطلّابٍ غرقوا بالرّحلات الله يرضى عليك يا أمّي أوعى ها، إصحى تنزل.

        إن شاء الله... يالله يا أمّي لا تشغلي بالك!

        جاهزين يا ابني؟

        نعم بابا.

        خذ خرجيتك معك واشتري هدايا من العريضة.

        يسلّم إيديك ويخليلنا ياك يا بي...

كانت رحلةً مدرسيّةً من السّلميّة إلى السّاحل السّوريّ، وكانت أوّل رحلةٍ يسمح لي بها أبي رحمه الله، فقد كثرت حوادث السّير والغرق، وكان الخوف من قبل الأهالي مُبَرّراً. أوصلنا الوالد إلى المدرسة حيث كان الباص بانتظارنا، وحملت حقيبتي على كتفي والسّعادة تغمر قلبي، فهي المرّة الأولى التي أزور بها السّاحل السوري ومناطق الاصطياف بدون الأهل مع زملاء المقعد الدّراسيّ. كان الصّراخ يملأ الأجواء و الحماس يغمرنا استعداداً لخوض هذه المغامرة. كنت في الصّفّ السّابع عندما ودّعتُ والدي و ركبتُ على عجلٍ بعد وضع الحقائب داخل الباص، ومعظمنا لم ينم طيلة اللّيل من شدّة الإثارة للمغامرة الجديدة .

كانت الطّرق وعرةً بعض الشّيء ولم نأبه للمطبّات الطّبيعيّة، فقد كان الحديث يملأ الأجواء، وبدأنا رويداً نستقرّ في مقاعدنا ونحن نراقب الطّريق والأشجار، نتعرّف على خيرات بلادنا وجمال طبيعتها وأشجارها المزهرة الشّامخة من الصّنوبر والسّرو والبلّوط التي تغطّي مساحاتٍ شاسعةً على مدّ النّظر.

كانت البداية في ريف حماه حيث نزلنا بالقرب من نهر العاصي، وبدأنا التنقّل بين الأشجار واللّعب على ضفاف النّهر، وكانت الشّمس تسطع في السّماء وتعكس أغصان شجرة الصّفصاف على ضفاف النّهر، وتلفّني نسمةٌ صباحيّةٌ ناعمةٌ تثير مشاعري وتدغدغني. أمسكتُ بعودٍ من غصنٍ مرميٍّ بالقرب من السّاقية، وبدأت بالتّنزّه والمشي بسرعةٍ لأقطع أكبر مسافةٍ وأنا أحاول تقليب حجارةٍ صغيرةٍ لأجد بحصاتٍ جميلةً أخذتها ووضعتها في حقيبة الكتف، وشربت من ساقية النّهر مياه نقيّةً عذبةً باردةً، وابتلّت قدماي وخيّل لي من شدّة الفرح كأنّها قطرات دموعٍ  في داخلي تغسل أحلامي الرّومانسيّة، وعدت أدراجي  إلى الباص، وجلست بالقرب من النافذة أتأمّل جمال بلادي، أراقب هذا الفضاء الحرّ الطّليق، وأغرق من جديدٍ في التّفكير، وأخرجتُ مفكّرتي وبدأت بتدوين ما شاهدته والتّخطيط للمستقبل ورحلة حياتي، وانتابني شعورٌ بالامتنان لوالديّ اللّذين سمحا لي المشاركة في هذه الرّحلة المدرسيّة.

من المناطق الجميلة التي انطبعت في ذاكرتي كانت كلّاً من مدينة مصياف وريفها السّاحر وجبالها الشّامخة المكسوّة بالخضرة، الصّنوبر فيها يروي بطولات الأجداد، وتشمخ قلعتها التي تعاقب عليها الفنّ الرّومانيّ والبيزنطيّ والإسلاميّ، لقد خصّ الله هذه الأرض بالبركة فهي أرض التّين والزّيتون، وكما قال الشّاعر أبو الطّيب الخشّ ابن مصياف:

إذا يمّمت حسناً بالمكان     فزر مصياف رائعة الزّمان

لئن عُدّت جنان الله يوماً  فمصيافُ الهوى تاجُ الجنانٍ

 وكذلك مدينة صافيتا التي تبعد 35 كم جنوب شرق محافظة طرطوس وتقعُ على ارتفاع 380 متراً عن مستوى سطح البحر، وتتمتّع بطبيعةٍ خلّابةٍ تحيط بها الجبال والوديان والينابيع  والأحراش والأشجار الكثيفة المثمرة، ولها تاريخٌ عريقٌ كذلك الأمر، حيث تحتضن آثاراً لا تحصى وتراثاً غنيّاً مثل القلعة وحصن سليمان بالقرب من قمّة النّبي صالح وجسراً وكنيسةً قديمةً في موقع الكفرون الذي يعود للعهد الكنعانيّ تحيط به بيوتٌ قديمةٌ،  وبالقرب منه تعرش مغارة الضّوّايات الجميلة والتي قيل لنا إنّ الثوّار كانوا يختبئون بها أثناء محاربتهم الاحتلالين العثمانيّ والفرنسيّ ومن المؤسف أنّ الكثير من مساحاتها الدّاخليّة لم تُكتشف بعدُ، وجبل السّيّدة العذراء الذي يعود تاريخه إلى الحقبتين الفينيقيّة والصّليبيّة. وتزامنت رحلتنا المدرسيّة مع الاحتفالات السنويّة لسكّان المنطقة حيثُ كانت هناك الكثير من العروض الفلكلوريّة التّراثيّة.

        دعنا نحفر أسامينا على جذع شجرة السّنديان هذه.

        هل تعتقدين أنّنا سنعود ونزور المنطقة ثانيةً؟

        نعم طالما أنّنا نحب بعضنا البعض.

        وكيف سنتذّكر الشّجرة؟

        إنّ هذه الشّجرة هي الأكبر والأقدم كما ترى من جذعها.

        طيّب، سأحفر الحروف الأولى داخل قلبٍ واحدٍ.

        بسرعةٍ، علينا العودة...

أخرجت سكّينة الإسكافيّ من جيبي وبدأت أحفر على الشّجرة، هرعنا للالتحاق ببقيّة التّلاميذ لمتابعة الرّحلة إلى السّاحل، وبدأت الشّمس بالمغيب.

كانت الطّرق وعرةً خلال التجوّل في المنطقة،  وزرنا عدّة قرىً جميلةٍ لم تزل مطبوعةً في مخيّلتي، حيّةً كما عدتها أوّل مرّةٍ، وأستمتع بسماع أخبار سكّانها من الأصدقاء، والصّور الجميلة التي يوشّح العديد  بها صفحاتهم على وسائل التّواصل الاجتماعي وتعود بي الذّكريات إلى تلك الأيّام الجميلة التي قضيتها هناك.

كان البحر من المناطق التي أعشق زيارتها لأستلقي على شواطئه لساعاتٍ طوال، والسبب ربّما لأنّني من مدينة السّلميّة المحرومة من البحر والأنهار، أمشي بالقرب من الشّاطئ وأراقب مدّ البحر يزيل آثار أقدامي، والمياه تصطدم بالشّاطئ كأنّها زبدةٌ تذوب بسرعةٍ. كنت أُمسك الحجارة واقذفها على سطح الماء بكلّ قوّةٍ، واراقبها تتقاذف على سطح الماء إلى أن تغوص في الأعماق. كنت أجمع قطع الصّدف الصّغيرة الحلزونيّة ووضعها داخل زجاجةٍ مملوءةٍ بالرّمل واحشرها في حقيبتي ...

أتذكّر هذه الأيّام الجميلة التي عشتها بغصّةٍ لدى سماعي لخبر الحرائق الذي شبّت في تلك المناطق، وأنا أتصوّر تلك الغابات الفاتنة والأحراج تلتهمها النّيران من كلّ جانبٍ لتحوّل الأشجار إلى فحمٍ وتعرّي تلك الجبال السّندسيّة. حرقت  هذه النّيران مع تلك الخمائل أحلامي، وخيّمت سحابةٌ سوداء  فوق رأسي وأنا أختنق من استنشاق رائحة الدّخان المتصاعد أثناء مشاهدتي للصّور والفيديوهات المتداولة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والتي كانت تصلني من بعض الأصدقاء والأقارب، سكّان المناطق المنكوبة. كنت استشيط غضباً لعدم قدرتي على المساعدة في إطفاء الحرائق التي التهمت  قرابة  6000 هكتارٍ من الأراضي الحراجيّة والزّراعيّة في ريف مصياف وسهل الغاب وغابات الصّلنفة. كانت الغصّة تهصر قلبي وأنا أتصوّر هذه المناظر المرعبة وسنابل القمح تنحب ظلّها، و بعض الطيور قد فضّلت الموت داخل أعشاشها بعد أن عجزت عن حماية فراخها، ولم يكن ثمّة وقتٌ لتجد مكاناً آمناً لنقلها. كانت سورية بجميع   نسجها وأطيافها الاجتماعيّة  ثكلى، كما هي الحال معنا هذه الأيّام، فلا يجمعنا  سوى الحزن والأسى على ما آلت إليه الأمور في وطننا الجريح  من فاجعةٍ تلو الاخرى على مدى عشر سنواتٍ متتاليةٍ، إذ نقف عاجزين غير قادرين على الحراك، نرقبُ بذهولٍ وألمٍ هذه النّيران المضطرمة التي أشعلتها أيادي الغدر و العار و النّذالة و الجبن عن سابق قصدٍ وتخطيطٍ، والتي سيحرق لهيب نارها الغطاء عن أعينهم.

كنّا نحمل شعلة الحرية في طفولتنا لنضيء دربنا ونبدّد الظّلم والظّلام وننشد للحريّة والحياة ونقاوم أسلحة الباطل التي كانت تستهدف الأيادي الطّاهرة التي حملت شعلة الحقّ والأمانة.

لم تكن الحرب على سورية كافيةً لتدمير البنية التّحتيّة والممتلكات العامّة والخاصّة، بل طالتها الحرب البيئيّة لحرق الأشجار المثمرة والغابات واستغلال الثّغرات في النّسج الاجتماعيّة داخل المجتمع السّوريّ لحرمانه من هذا الإرث الطّبيعيّ الغنيّ واللّعب على أوتار التّوتّرات والانقسامات وزيادة الفوضى والفتن وأعمال الشّغب واستهداف الدّولة ومؤسّساتها وأحراجها، لأنّ الهدف الأوّل والأخير من هذه الحرب الكارثيّة هو الشّعب السّوريّ بأكمله لإجباره على الهروب والتهجير القسريّ والخنوع والإذلال والاستسلام في ظلّ غياب استراتيجيّةٍ شاملةٍ لمواجهة الجيل الخامس من الحروب التي دخلت بلادنا.

 

        لقد ماتت أحلامنا. لا تعد يا وائل لا فائدة من عودتك .

        كيف لا ؟ مازلت أعيش حلمنا!

        لم يعد للأحلام مكان، كلّنا كوابيس ومصائب، ابق حيث أنت.

        سأبحث عن شجرة السّنديان، فقد حفرت اسمينا على جذعها.

        نحن نعيش فاجعة وطنٍ، لم يعد هناك أشجارٌ، لقد احترقت الشّجرة بالكامل.

        لم يعد هناك أملٌ؟ مازلت أحبّك يا غاردينا.

        أنت حبّي السّرمديّ ولكنّنا في مأتمٍ دائمٍ، نموت ببطءٍ.

        سوف نزرع الشّجر من جديدٍ ونركض في الحقول، نطارد الفراشات والعصافير ونستنشق هوانا النقي.

        مازلت تحلم! كم أعشقك وأحبّ تفاؤلك رغم المصائب!

        لا تموت الأحلام يا غاردينا، سنحطّم السّلاسل والقضبان، وسأطلق العنان لكلماتي لأفجّر القنبلة الموقوتة في صدري، و سوف أعود إليكِ...

أيقظني صوت بائع الشاي والشيبس من سباتي نازعاً من أهداب عينيَّ دمعات صلبٍ حارقةٍ...

           وللقصّة تتمّةٌ

                                الكاتب والصّحفي السّوريّ المقيم في الهند

                                                الدّكتور وائل عوّاد

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.