تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا ويوميّات قناص كركرونا – لَا تَذْبُلِي يَا زُهْرَة اَلْغَارْدِينِيا 58

مصدر الصورة
خاص

لاشيء يضاهي زهرة الغاردينيا سحراً وجمالاً، خاصّةً عندما تعتني بها بيديك وترى البراعم تتفتّح ويفوح عطرها، وتستحضر العشق والشّوق في مخيّلتك وهي تتمايل مع أشعّة الشّمس تحاول أن تلامس أشعّتها الذّهبيّة كعاشقةٍ هائمةٍ تتذوّق رحيق روح السّماء.

لم أكن لأتحمّل منظر شجرة الغاردينيا يابسةً بعد انقطاعٍ دام قرابة العام عن المنزل، وكنتُ على قناعةٍ أنّ صديقي كان يعتني بها، ولكنّه فضّل تركها تموت ببطءٍ وهو يراقبها يوميّاً. كانت أوراقها قد ذبلت، وبدت يائسةً وسط العشب اليابس من حولها، ولم تكن مياه الأمطار والثّلوج كافيةً لإبقائها نضرةً تنضحُ بالحياة. رحتُ أداعبُ أوراقها اليابسة، وبدأت تتساقط مع لمساتي؛ حاولت أن أكسر عوداً صغيراً كي أستشعر إن كان ثمّة روحٌ بداخلها. قمت بسقايتها، وبقيت ساعاتٍ بقربها لا أصدّق ما تراه عيناي، أناجيها: "لا تموتي يا شجرة الغاردينيا، قاومي قساوة البشريّة الهمجيّة والعطش وأشعّة الشّمس الحارقة، وعودي للحياة... أنت لا تعرفين الموت..لقد منعوا عنك الماء! لقد تحدّيت الثّلج والرّطوبة والمطر، ولكنّ الجفاف أنهكك! لقد تركوا التّربة يابسةً من حولك ولم تُسقَ الأرض في غيابي. سوف أجلب الأسمدة  القلويّة لأسقي التّراب من جديدٍ، زهرة الغاردينيا لا تموت..."شجرة وائل

·       قصّةٌ جميلةٌ. ماذا فعلت؟ هل عادت لها الحياة؟

·       مازلت أبذل قصارى جهدي ولكنّني ما زلت بعيداً عنها.

·       كان عليك ألّا تتركها.

·       أعرف ذلك ولكن لم تكن الظّروف تسمح لي.

·      هل مازالت تتذكّرك؟

·       تعرفني جيّداً، وتدركُ كم أحبّها.

·       هل بحت لها بذلك منذ وقتٍ قريبٍ؟

·       أجدّد ولائي لحبّها بين الحين والآخر.

·       لا تخف... لن تذبل، سوف تثمر من جديدٍ.غاردينيا

·       من أطلق عليك اسم "غاردينيا".

·       أبي كان يحبّ هذه الزّهرة البيضاء، وأخبرني أنّه يجبُ عليّ أن أبقى طاهرةً نقيّةً.

·       ألهذا السّبب اختاروكي لتكوني الإلهة كوماري وأنت في ربيعك الخامس؟

·       أظنّ ذلك... قالها لي أبي، وكانت أمّي مسرورةً للغاية.

إنها الإلهة كوماري، فقد تمّ اختيارغاردينيا  من بين العشرات من الفتيات من قبيلة ساكيا البوذيّة  لكي تمثّل دور الإلهة. إنّها تضحيةٌ كبرى من قبل الأهالي لوهب ابنتهما للمعبد لتعيش هناك في منزلٍ مقدّسٍ لوحدها. لقد كانت  الطّفلة غاردينيا خاليةً من العيوب وبصحّةٍ جيّدةٍ، ناصعة البياض، خلوقةً وعفيفةً للغاية وعقلها سليمٌ.

تعود الأسطورة إلى القرن الحادي عشر الميلاديّ عندما أصبحت الإلهتان تاليجو وكوماري المتقمّصة بروحٍ واحدةٍ، وبالتّالي تلاحمت الدّيانة البوذيّة مع الهندوسيّة بشخصية كوماري، ووضعت داخل معبد قصرٍ مطلٍّ على الشّارع الرّئيسيّ في العاصمة النّيباليّة كاتمندو، وجانبٌ من المعبد للإلهة تاليجو والجانب الآخر لعبادة كوماري، والآلاف من أتباع الإلهة يتدفّقون في الشّوارع لإلقاء نظرةٍ على الإلهة التي جلست على النّافذة تلوّح بيديها للمارّة وهي تتزيّن بالحلي والمجوهرات التي صُنعت خصّيصاً للإلهة كوماري، وكلّ قطعةٍ من المجوهرات تمثّل قوّةً خاصّةً.فتاة الغاردينيا

عادت كوماري إلى قريتها بعد سبع سنواتٍ من تقمّصها لشخصيّة الإلهة عندما أصبحت فتاةً يافعةً كي تعيش بين أهلها من جديدٍ بعد أن فقدت حنان الأبوين وحياة المدرسة وصحبة رفاقها واللّعب مع إخوتها. لقد واجهت صعوبةً في التكيّف مع الأجواء العائليّة من جديدٍ، ولم تعتد المشي في الشّارع بعد وكذلك التّحدّث مع الغرباء، ولا تعرف كيف ترتّب غرفتها أوتمشّط شعرها لأنّه كان دوماً هنالك من يقوم بذلك في المعبد.

لقد عادت الحرّيّة إلى غاردينيا، وعليها أن تعيش حياتها من جديدٍ وتمارس نشاطاتها كأيّة طفلةٍ في سنّها، وهاهي تجلس مع أختها وصديقتها وتحاول أن تشاركهم الحديث، وتقول إنّها تريد أن تدرس لتصبح مدرّسةً لتعلّم الأطفال وتعيش بينهم ما حرمت منه في طفولتها.

كان يوماً عاديّاً عندما قرّرت غاردينيا أن تذهب إلى منزل قريبة صديقتها كي تعودا معاً إلى المنزل، وقد بدأت الشمس تغرب. كانت الغرفة مليئةً بالأقارب، والمصابيح الكهربائيّة مطفأةٌ، وضوء الفانوس وسط الغرفة الصّغيرة، والضّجيج يملأ الأجواء. كان ينظر إليها بعينيه وقد شعرَ برعشةٍ في قلبه عندما اقترب ليسلّم عليها، ومدّ يده فلمس يدها الصّغيرة النّاعمة وشعر بحرارتها، وكانت تلك النّظرة واللّمسة كافيتين لتشعل ناراً في صدره. لم يستطع النّوم طيلة اللّيل وهو يفرك كفّيه ويتأمّل وجهها البريء وضحكتها والغمّازتين على وجهها.

·       مالك حائر؟

·       لقد خَطفت قلبي.

·       من؟ صديقتي؟! إنّها حسناء طيّبةٌ وخلوقةٌ ومن عائلةٍ جيّدةٍ.

·       لا أدري هل هو حبٌّ من أوّل نظرةٍ أم ماذا؟

·       سوف أدعوها مرّةً ثانيةً لتتحدّث معها...

·       ليكُن...

لقد وقع راغاراجا بحب  غاردينيا، فقد شعرت هي الأخرى بأنه الشخص الذي استملك روحها  من اللّقاء الأوّل، وقلبها سوف يختم هذا الحبّ. بدأ يواعدها ويسرقان لحظاتٍ لإلقاء نظراتٍ على بعضهما البعض دون أن يُفتضح أمرهما بالقرية الصّغيرة، فالجميع يعرف بعضه البعض، وكان عليه أن ينتظر مرورها عن بعدٍ وهو على شبّاك غرفته ليلوّح لها بيديه، وتردُّ وهي تغطّي وجهها بوشاحها أو بالكتاب بيدها وهو يدرك أنّها تردّ له التّحيّة. بدأ راغاراجا ينتظر لحظة عودتها إلى بيتها ويقف لها على جانب الشّارع بالقرب من المقبرة، إذ لا بدّ لها أن تسلك الطّريق الوحيد إلى منزل ذويها. وكانت تدخل المقبرة ويمسكان بيدي بعضهما البعض ولا يخشيان أرواح الموتى من حولهما لأنّهما لم يُحدثا أيّ ضجيجٍ، ويبقيان لعدّة دقائق يستمعان إلى دقّات قلبيهما كي لا تغضب الآلهة وتصحو أرواح الموتى.

عادت غاردينيا إلى بيت أهلها على عجلٍ، ووقف حبيبها على جانب الطّريق ينتظر دخولها الزّقاق الضيق كي يضمن سلامة عودتها. حثّ راغاراجا الخطى بين القبور ليغيّر مسار طريقه ويعود لمنزل ذويه بعيداً عن أعين الجيران والأقرباء الّذين يقطنون في الحارة، وكان الغبار يظهر خلفه من خطواته المتسارعة، والسّماء داكنةٌ وضوء الشّارع باهتٌ وخافتٌ، وتمكّن من تجنّب أعين أصحاب الدّكاكين وزوّارهم ممن يشربون الشّاي على الأبواب ويراقبون المارّة.

كان الحب عذريّاً مثل الأحلام، يتبادلان الكتب المدرسيّة، ويترك لها بداخلها وروداً قطفها من الحقل أو فراشةً اصطادها مع بعض كلمات الحبّ والغزل، إذ كان الحقل مليئاً بالفراشات الجميلة. صارا يلتقيان أكثر في فترة الصّيف، ويجري وراءها في الحقول، ويحاول مطاردة الفراشات، ويجري وهي تجري وراءه وتشجّعه وتصفّق له، وكان ينسى التّعب والإرهاق، ويتظاهر بالقوّة ويرتمي على العشب ليلتقط أنفاسه وهي تضع رأسه على ساقيها وتداعب خصلات شعره، فتنتفض روحه وتشرئبّ القوّة في كيانه وعيناه تومضان بالحب والشّوق والرّغبة بالبقاء للأبد إلى جانب محبوبته.

·       علينا العودة، لقد تأخّرنا!

·       أريد أن أبقى معك...

·       لابدّ من العودة بسرعةٍ.

·       أحبّك إلى الأبد يا غاردينيا... أنت ملاكي.

·       وأنا أحبّك، ولن يمنعنا شيءٌ من العيش معاً...

·       أنتِ لي يا غاردينيا.

·       أنتَ لي يا راغاراجا.

كانا يبنيان عالماً جميلاً من حولهما، عالماً خالياً من الحقد والكراهية، ولا أحد يتدخّل بحياتهما. كانا يرسمان أجمل الصّور لعالمٍ أكثر أمناً واستقراراً وفرحاً. كانا يعانقان بعضهما البعض لوقتٍ طويلٍ ويضع في يدها هديّةً حملها معه، ويفترقان على أمل اللّقاء من  جديدٍ.

اغرورقت عينا غاردينيا الجميلتين بالدّموع وهي تروي لي القصّة التي أثارت تساؤلاتي.

·       قصّة حبك جميلةٌ يا غاردينيا. لمَ لم تتزوّجا؟وائل

·       كان لا بدّ له من مغادرة القرية بحثاً عن العمل في المدينة.

·       وهل حصل على عملٍ؟

·       كان يشقى ويواجهُ مشاكل ومصاعب كثيرةً.

·       ماذا حدث إذاً؟

·       عاد بعد سنةٍ وهو يبكي ويقول: "لا أريد أن أدمّر حياتك لأنّ مشواري طويلٌ، ولن أقدر على العودة للعيش معك، ولكن لا أريد لقصّة حبّنا أن تموت".

·       وماذا فعلتِ؟

·       أحببت فيه جرأته، وكنت أدرك متاعبه ومشاكله، فتحاملت على أوجاع قلبي وقبلت قراره، وتمنّيت له حياةً سعيدةً كما تمنّاها لي بدونه... وخرج ولم يعد.

قالتها بحسرةٍ  ...  فبادرتُ بالسّؤال:

·       هل مازلت تحبّينه؟

·       نعم، وهو يحبّني، وقصّتنا قصّة حبٍّ عذريٍّ أبديٍّ لم يُدنّس.

كان هذا اللّقاء الأخير لي مع غاردينيا قبل عودتي من النيبال إلى الهند، وعلمتُ فيما بعد أنّها قد تزوّجت وأنجبت أطفالاً، أمّا راغاراجا فقد أراد التّواري عن الأنظار والتمرّد على مجتمعه، ولم يعد للقرية بعد ذلك...

كنت أبحث في مفكّرتي وأنا محجورٌ طوعيّاً في البيت بسبب جائحة فيروس كورونا، وقرأت ما دوّنته عن اللّقاء مع غاردينيا، وأنا أتذكّر نبتةً في منزلي قد ذبلت... وهذه مقتطفاتٌ من الشّعر الذي كتبه راغاراج إلى حبيبته وقمتُ بترجمتها كما فهمتها:

غاردينيا...

زهرة الحب السّرمديّ...

 من وجهك الصّبوح تلوح الثّلوج

ثلوج الهيمالايا ...

أيّتها النّاصعة البيضاء

ابتسمي واغمريني عشقاً لا يزول

انثري عطرك الفوّاح حولي

أنا عاشقك المجنون

اقتلع الشّوك من حولك

يا زهرتي غاردينيا... لن تبرحي فؤادي أبداً

أرواحنا معلّقةٌ على ضفاف العمرغاردينيا

 في سمائنا البهيّة

لعالمٍ من صنع يدينا...

لا لن أقول وداعاً

وإن تناءت خطانا

يا غاردينيا...

وهنا أستذكر الشّاعر الدّمشقيّ الخالد نزار قبّاني بأجمل قصائده والتي غنّاها خالد الشّيخ:

هل أرحل عنكِ وقصّتنا

أحلى من عودة نيسان؟

أحلى من زهرة غاردينيا

في عتمة شعرٍ إسبانيّ

يا حبّي الأوحد لا تبكي

فدموعك تحفر وجداني

إنّي لا أملك في الدّنيا

إلّا عينيكِ وأحزاني....

أتراه استلهمها من قصّة هذين الحبيبين أم أنّ قصص الحبّ تتشابه رغم تباعد الأماكن واختلاف الأزمنة؟

وللقصّة تتمّةٌ...

 

                                             بقلم الدّكتور وائل عوّاد

                                      الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم بالهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.