تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

كيف نحصن أنفسنا من الأخبار الكاذبة؟

مصدر الصورة
وكالات

ديغو أرغودس أورتز

صحفي

تعمل أغلب المؤسسات على مكافحة انتشار الأخبار الكاذبة، لكن هل من سبيل لوأد الدعاية المضللة في مهدها؟

لعقود، أتاح لنا الطب سبيلا سهلا للوقاية من الأمراض عبر التطعيمات، وأغلبنا على دراية بالكيفية التي تعمل بها هذه التطعيمات، وذلك عبر تعريض أجسادنا لفيروس ضعيف لمساعدتها على توليد أجسام مضادة له.

وقد انتشر بين الأطباء في العالم استخدام الأمصال، والتي كادت أن تنهي تماما بعض أشد الأمراض فتكا في القرن الماضي، ومنها الحصبة وشلل الأطفال.

لكن هل من "تطعيمات" أخرى يمكن استخدامها خارج دائرة الطب؟

هل تؤثر شاشات الهواتف والمصابيح الموفرة للطاقة على صحتنا؟

ما حقيقة العلاقة بين طعامنا و"حب الشباب"؟

يعكف باحثون مثل ساندر فان ديرليندن على تطوير "لقاح" لمكافحة داء استشرى على الأخص في القرن الحادي والعشرين، وبات يعرف بـ"الأخبار الكاذبة".

وقد يثبت هذا الحل نجاعة لأن الدعاية المضللة تتصرف كالفيروسات، فالقصص والأخبار الزائفة تنتشر كالنار في الهشيم، وتفوق الأخبار الحقيقة في سرعة انتشارها وعمق تأثيرها ومداها، منتقلة من "عائل" لـ"آخر" عبر تويتر وواتساب وفيسبوك، الذي أصبح منتشرا حتى بين كبار السن، وما يزيد الطين بلة هو أن الخبر الكاذب يستمر قائما رغم المحاولات العديدة لدحضه.

ويقول فان ديرليندن الذي يرأس "مختبر صناعة القرار الاجتماعي" بجامعة كمبريدج: "الدعاية المضللة تعلق بالشخص رغم محاولات تفنيدها، وما إن تترسخ في ذاكرته الطويلة حتى يتعذر تصحيحها".

فما الحل؟ أفضل وسيلة هي المبادرة بالقضاء على الأخبار الكاذبة في مهدها.

فبدلا من الانتظار حتى شيوع الخبر الكاذب ثم السعي لتصحيحه وتفنيده، يلجأ الباحثون لـ"ضربة استباقية" من شأنها وقاية ذهن المتلقي من الخبر الكاذب، وهو التوجه الذي أشارت عقود من البحث لفاعليته.

أولا، اقترح خبراء النفس هذا النوع من التحصين في الستينيات خوفا من الدعاية وغسيل الدماغ إبان الحرب الباردة، ولكن التحصين الحديث في القرن الحادي والعشرين يستهدف أفقا سياسيا وثقافيا مختلفا ومستقطبا.

تنتشر الأخبار الكاذبة كالفيروسات عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل يفوق الأخبار الحقيقية من حيث سرعة ومدى انتشارها

قضية ساخنة

خذ مثلا التغير المناخي، فقد أجمع أكثر من 97 في المئة من علماء المناخ على أن الإنسان مسؤول عن ارتفاع حرارة الكوكب، ولكن شرائح واسعة لا تزال تجد صعوبة في تصديق هذا.

وحين سئل الأمريكيون عن نسبة علماء المناخ الذين يؤكدون حدوث احترار كوكب الأرض جراء النشاط البشري، قال 49 في المئة فقط ممن شملهم الاستطلاع إن نسبة هؤلاء العلماء تفوق النصف. ولم يجب الإجابة الصحيحة سوى 15 في المئة من الأمريكين المشاركين في الاستطلاع، وقالوا إن النسبة تفوق 91 في المئة من العلماء.

وهذا التخبط يُعزى لوجود حملات معقدة تهدف لبث الشكوك بين الناس.

وما إن يترسخ الشك إلا ويصعب التخلص منه، ويتسأل فان ديرليندن وزملاؤه عما كان سيحدث لو سبقوا مروجي الأكاذيب إلى عقول العامة.

وبحث الفريق عن حملة دعاية فعلية مضللة، وكانت هناك حملة بالفعل سميت بـ"عريضة أوريغون" أدعت عام 2007 أن أكثر من 31 ألف عالم أمريكي أعربوا عن رفضهم لمسؤولية البشر عن إحداث التغير المناخي.

أعد الفريق ثلاث وثائق، اشتملت أولها على "نشرة للحقيقة" بأن 97 في المئة من علماء المناخ يتفقون على مسؤولية البشر عن التغير المناخي، كما أعدوا "نشرة مناهضة" لعريضة أوريغون كشفت عيوب تلك العريضة - ومنها مثلا أن الأسماء الـ 31 ألفا التي اشتملتها العريضة تضم تشارلز داروين الذي مات منذ أمد طويل، وفرقة سبايس غيرلز، وأن أقل من واحد في المئة من الموقعين على العريضة من علماء المناخ.

وأخيرا استطلع الباحثون آراء ألفي شخص، وسألوهم أولا عن مدى الإجماع العلمي بشأن التغير المناخي - دون إطلاعهم على أي من الوثيقتين، ثم قسموهم إلى مجموعة اطلعت على "نشرة الحقيقة"، ومجموعة اطلعت على "عريضة أوريغون"، ومجموعة ثالثة اطلعت على "نشرة الحقيقة" قبل الاطلاع على العريضة.

وجاءت النتائج مثيرة للاهتمام، فحين سئل المشاركون أولا عن الإجماع العلمي حول التغير المناخي، قدروه في المتوسط بنحو 72 في المئة، ولكن لاحقا عدّل المشاركون من تقديرهم بناء على ما قرأوه.

وحين اَطْلع الباحثون مجموعة من المشاركين على "نشرة الحقيقة" ارتفع التقدير إلى 90 في المئة، أما من لم يطلعوا إلا على "عريضة أوريغون" وحدها فقد تدنى تقديرهم إلى 63 في المئة.

تقول راسة إنه حين أطلع الناس على منشور حقيقي ثم اطلعوا على آخر كاذب تمكن الكاذب من تحييد البيانات الصحيحة بالكامل

وحين قرأت مجموعة ثالثة الوثيقتين - أولا "نشرة الحقيقة" ثم العريضة - فقد ظل تقديرهم دون تغير عند نسبة 72 في المئة.

يقول فان ديرليندن: "لم أتوقع أن تكون الدعاية المضللة بهذه القوة"، فقد حيدت تماما البيانات الصحيحة.

فكيف إذا يمكن الاستعانة بفكرة تحصين الدماغ؟

حين اطلعت مجموعة من المشاركين على "نشرة الحقيقة" وأخبر أفرادها بأن مجموعات مسيسة قد تعمد لتضليل العامة بشأن قضايا مثل التغير المناخي - وكان إخبارهم هذا بمثابة "لقاح" لهم - ارتفع متوسط التقدير إلى 80 في المئة، حتى بعد الاطلاع على عريضة أوريغون.

وفي بحث منفصل، وجه فريق آخر بقيادة جون كوك سؤالا مماثلا وتوصل إلى نفس النتيجة وهي أن التحصين من شأنه تمكيننا من التغلب على التضليل.

وقد اعتبرت إيرين نيومان، عالمة الإدراك والمحاضِرة بجامعة أستراليا الوطنية، والتي لم تنخرط في هذه الدراسات، أن نتائجها مثيرة، قائلة: "إنها تحمل توجها مختلفا بشكل جذري باعتماد ضربة استباقية يتقدم بها الناس".

أي أن الشخص الذي اعتاد نشر أخبار عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو عن ترامب أو عن أن الأرض ربما تكون غير كروية، سيفكر مرتين قبل أن ينشر أخباره.

نجاعة التحصين

عادة ما يعتمد البشر على طرق مختصرة للتفكير، فالعالم مليء بالمعلومات وليس لدى ذهننا ما يكفي من الوقت والسعة لاستيعاب كافة المعلومات، فإذا ما رأيت مثلا رجلا علت التجاعيد وجهه وأبيض شعره وأخبرك أحدهم أنه من كبار السن فسوف يقبل عقلك ذلك دون التوقف عند الأمر.

والمنخرطون في بث الدعايات المضللة يعون ذلك، ويستخدمون تلك السمة في الإنسان لصالحهم، فمثلا كذب من صاغوا عريضة أوريغون بزعم أن 31 ألف عالم يدعمون زعمهم، إذ يعون أننا نميل للثقة فيمن يوصف بالخبرة.

قبل القبول بخبر يخضعه المتلقي لعدد من المحكات، ومع ذلك كثيرا ما نختصر الطريق دون التثبت من الأمر

وتقول نيومان، وقد شاركت في كتابة وثيقة عن كيفية التعامل مع المعلومات الكاذبة، "حين تبدو المعلومات سهلة ومباشرة يميل الناس لقبولها كما هي".

ولكن قبل القبول بمعلومة ما فإن أغلبنا يخضعها لعدد من التساؤلات من بينها: هل يصدق الآخرون هذا؟ هل من أدلة تدعم هذا الزعم؟ هل تتفق مع معرفتنا السابقة بنفس الشأن؟ وما مدى مصداقية المصدر؟

لكن كثيرا ما نعتمد على اختصار الطرق أكثر من اللازم عند الإجابة على تلك الأسئلة دون أن نقيم الأمور تقييما متأنيا، كأن نسأل أنفسنا مثلا: "كم من هؤلاء علماء بمجال المناخ؟" بل نتعجل بقبول رقم "31 ألف عالم" لأنه يبدو رقما مطمئنا.

ويصف الخبراء النفسيون هذا السبيل التلقائي للتفكير بـ"المنظومة أ" وهي ذات نفع هائل للحياة اليومية وإن كانت عرضة بشدة للتضليل؛ ففي ظل بيئة معلومات متسارعة يقفز ذهننا من منشور لآخر على فيسبوك معتمدا على قواعد تلقائية لتقييم العناوين والتعليقات دون التروي لفحصها.

وهنا مرتع الأخبار الكاذبة، لكن الباحثين العاكفين على تطوير "لقاح" ضد الأخبار المضللة يعتقدون أنهم بهذا يتيحون الفرصة للتفكير المتأني.

ويقول فان ديرليندن إن "التحصين يجبر ذهننا على التروي بما يحمله من عنصر التحذير".

وهنا يبدو مفيدا فهم الكيفية التي يعمل بها اللقاح الطبي.

حين نتلقى تطعيما فإننا نعرض أجسامنا لعينة من مرض وكأننا نقول له هذا هو شكل "المشتبه به" ولكن العينة تكون ضعيفة جدا لدرجة لا تجعلنا نمرض فعلا، ولكنها أيضا من القوة بحيث تثير مناعتنا حتى تفرز أجسامنا ما لديها من دفاعات؛ أو أجسام مضادة.

وحين نصادف المرض الحقيقي تتعرف أجسامنا عليه من العينة السابقة التي دخلت أجسادنا من خلال اللقاح، وتكون على أهبة المواجهة.

وتعتمد دراسة فان ديرليندن على أمر مشابه، فحين أخبر فريقه المشاركين أن آخرين قد يسعون لتضليلهم جعلوهم لا يقبلون عريضة أوريغون بغض النظر عن مضمونها، إذ قاموا بتعطيل "المنظومة أ" لديهم ليلجأوا إلى منظومة أخرى أبطأ وأعمق من التفكير يطلق عليها الخبراء النفسيون "المنظومة ب".

فالذين قرأوا "نشرة الحقيقة" وعريضة أوريغون وقدروا إجماع العلماء بنحو 72 في المئة ربما اعتمدوا أكثر على "المنظومة أ" الأسرع والأكثر سطحية، ولكن حين حُفزت أذهانهم بـ"اللقاح"، لجأوا إلى "المنظومة ب".

مكمن الضعف

لكن ثمة مكمن ضعف كبير في هذا التوجه وهو أنه يستهلك الكثير من الوقت والجهد لتحصين الناس حالة بعد حالة.

دعونا نستخدم تشبيه اللقاح لأبعد من هذا: إن التطعيم ضد الحصبة الألمانية لن يقينا من الإصابة بالحصبة أو قل الكبد الوبائي، إذ سيخلق أجساما مضادة ضد فيروس الحصبة الألمانية وحده. وكذلك دحض أفكار منكري التغير المناخي لن يقيك بالضرورة من الأخبار الكاذبة في موضوعات أخرى.

ويقول رون روزنبيك المنضم إلى فريق فان ديرليندن عام 2016: "هناك ملايين القضايا التي يمكن تضليل الناس بشأنها، وليس بالإمكان تفنيد كل خبر تفنيدا مسبقا، إذ لا سبيل لمعرفة من أين تأتي الكذبة المقبلة".

والمشكلة الأخرى هي أن الناس لا يحبون أن يخبرهم أحد بما هو صحيح وما هو خطأ، فنحن نظن عادة أننا نعرف أفضل من غيرنا. ولهذا ينصح خبراء التربية المعلمين بإشراك الطلاب بشكل نشط في العملية التعليمية.

ولذا، عاد خبراء كمبريدج إلى مختبرهم للخروج بفكرة جديدة. ويقول فان ديرليندن: "فكرنا في تعليم الناس الأساليب التي تستخدمها صناعة الأخبار الكاذبة، فليس من سبيل أفضل لإعدادهم، أليس كذلك؟"

وكانت النتيجة لعبة مثل خلالها المشاركون دورا من أربعة أدوار، منها دور "المكدر للصفو" بنشر أخبار مفزعة ومبالغ فيها، ودور "محترف الإثارة" الذي يلجأ لوسائل تجعل القارئ يهرول للضغط وقراءة الخبر، وكان التركيز في اللعبة على استراتيجيات الأخبار الكاذبة وليس الموضوعات.

وجربت اللعبة بنجاح في صف بالدراسة الثانوية في هولندا، ومن ثم نقلها الخبراء إلى الإنترنت.

وتستغرق اللعبة على الإنترنت أقل من 15 دقيقة - ولكنها خبرة لا تصدق، تعتمد على إطلاق موقع أخبار تكون أنت محرره لخبر كاذب، وشراء جيش من الحسابات الوهمية على تويتر وتوجيه متابعيك بعيدا عن أي جهة قد تساعدهم في التثبت من الحقائق.

وقد جربتها وتجاوز متابعي سبعة آلاف، حتى شعرت بالخوف من إدمان اللعبة!

وخلال اللعبة تتعرف على ستة أساليب مختلفة يستخدمها أقطاب الأخبار الكاذبة، وهي التقمص، والاستغلال العاطفي والاستقطاب والمؤامرة والتكذيب والإثارة. والهدف هو كشف تلك الوسائل في الحقيقة، أو هكذا يأمل المرء!

ثمة لعبة على الإنترنت لإدراك أساليب صناع الأكاذيب، ومنها التقمص والاستغلال العاطفي والاستقطاب والمؤامرة والتكذيب والإثارة

وقد يبدو غريبا أن تعلِّم الأشخاص رفض الأخبار الكاذبة بأن تجعلهم يحتلون هم أنفسهم موقع مروجي تلك الأخبار، لكن الباحث روزنبيك يثق بتجربته ويجدها ممتعة، ومقلقة بعض الشيء!

ويقول روزنبيك، وهو باحث بمرحلة الدكتوراة: "حتى بعد التطعيم الطبي يشعر المرء بنوع من الغثيان، ويعتل بعض الشيء، ولكن الأمر يفيده لاحقا".

وقد صاغ الباحثان روزنبيك وفان ديرليندن، ورقة بحثية تضم ما خلص إليه 20 ألف لاعب وافقوا على المشاركة ببيناتهم لغرض الدراسة، ورغم أن البحث لم ينشر إلا أنهما يعتقدان أن النتائج مشجعة.

وهناك نسخة أصغر من اللعبة معروضة لبعض الوقت بمتحف لندن للتصميمات يمكن للوافد أن يلعب خلالها دور مروج أخبار كاذبة في بريطانيا في حقبة ما بعد التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

ولشدة ولع فريق كمبريدج بتشبيه التطعيم، يتحدث أفراده الآن عن ترجمة اللعبة لاثنتي عشرة لغة، ويتوقع فان ديرليندن أن تعم الوقاية على الإنترنت لو تشارك الناس بالأمر بما يكفي.

ويتحدث روزنبيك عن الأمل في الوصول إلى "مناعة عامة" لعدم تركيز اللعبة على قضية بعينها ولكن على الاستخدام العام للأخبار الكاذبة.

وفي النهاية، الوقت وحده كفيل بإثبات نجاح الفكرة من عدمه، ولا يعرف الخبراء حتى متى يعطي التحصين مناعة، فالتضليل مثله مثل الفيروس يتحور باستمرار ويتكيف مع المتغيرات.

وتقول نيومان: "لو تغير الفيروس، هل سيستمر الناس في الوقاية منه؟"، متسائلة عما إذا كانت اللعبة ستنجح مع الطبيعة المتغيرة باستمرار للإثارة والأكاذيب على الانترنت.

مصدر الخبر
BBC

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.