تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا  - دورات لغويّة أونلاين- 13 -

مصدر الصورة
خاص

دخلنا اليوم مرحلة تمديد الحجر المنزليّ (الإغلاق التامّ) في شبه القارّة الهندية لثلاثة أسابيع أخرى، وذلك للحدّ من انتشار وباء كورونا، ولابدَّ من إيجاد سبلٍ ترفيهيّةٍ جديدةٍ للحدِّ من التّوتّرِ والأرقِ والإرهاقِ وحالة المزاج العصبيّ الشّديدةِ التي يعاني منها الكثيرون قيد الحجر. ولحسن الحظِّ أنَّ الشّبكة العنكبوتيّة توفِّرُ فُرصاً عديدةً للتّسلية والتّعليم والتّواصل الاجتماعيّ والاصطهاج وطقّ الحنك؛ بيدَ أنّ القليلينَ يستفيدون من تعلّم اللّغات عبر النت على الرّغم من فوائد تعلّم اللّغات للمرءِ، إذ تساهمُ في تعزيز صحّة الدّماغِ، وامتلاك ذاكرةٍ قويّةٍ، وزيادة الانتباه، وحسن السّمع والفهم، والقدرة على التّواصل مع الآخرين، وبالتّالي يتحسّنُ أداؤك  اليوميُّ، ويزدادُ تركيزكَ وقدرتك على الإنتاج والإبداع، وتصبحُ أكثرَ تقرّباً للأصدقاء إذ تتحدّث معهم بلغتهم الأمّ، وتتحّسن قدرتُك على القيام بالعديد من المهام ...

ومنذُ نعومة أظفاري تملّكني الشّغفُ باللّغات الأجنبيّة، وكانت لغتي الإنكليزيّة جيّدةٌ وأنا في سورية أيّام المدرسة، ويشهدُ على ذلك مدرّسي القدير محمّد عدرة في ثانوية علي بن أبي طالب بمدينتي السلميّة، وكان ابنه هشام، زميلي في صفّ الدّراسة، منافسي الرّئيسيّ بالتفوّق لغويّاً.

وقبل حضوري إلى الهند، أجريت دورةً لتعلّم اللّغةِ الإنكليزيّةِ في معهد اللّغات في العاصمة السّوريّة، دمشق. وكان هناك مدرّسٌ فلسطينيُّ الأصل له الفضل في تشجيعي على صقل مواهبي اللّغوية .

بيدَ أنّ المحادثة باللّغة الإنكليزيّة تختلفُ تماماً عن دراستها في المناهج التي لم نكن نتلقّن فيها إلا القواعد والتّرجمات بتلك الطّريقة البدائيّة ،(Grammar Translation Method) ولكنة الأساتذة التي تقطر لهجةً عربيّةً، فيخيّل إليك لدى سماع أغنيةٍ أو فيلمٍ إنكليزيٍّ أنّها لغةٌ مريخيّةٌ لا تمتُّ لمّا تعلّمتهُ بصلةٍ؛ لذا واجهتُ صعوبةً في الدّراسة باللّغة الإنكليزيّة، ولكنّني أتقنتها جيّداً  تدريجيّاً وبالمثابرةِ، ومازلتُ أتعلّمُ ...والظّريفُ أنّ  اللّهجة واللّكنة الهنديّة الإنكليزيّة تختلفُ من ولايةٍ إلى أخرى، والأظرف أنَّ الكثيرين  من زوّارنا يشكونَ من طريقة الهنود بالتحدُّثِ باللّغة الإنكليزيّة على اعتبار أنّنا نتحدّثُ  لغة شكسبير، لأننا شاهدنا العديد من  المسلسلات وأفلام هوليوود ،المترجمة  طبعاً، لأنّكَ عندما تطلبُ منهم التحدّث يحتاجون لمترجمٍ عربيٍّ-إنكليزيٍّ،  وكثيراً ما نضحك على طريقتهم في الكتابةِ، ولكنّ حديثنا نحن باللّغة الإنكليزيّة لا يقلُّ طرافةً، وخصوصاً  هذا وذاك (زيس و زات) (This and That )، وباريس وبيبي (Paris and baby )، وجميلٌ جدّاً فيري كود (Very good)...

من الصعب استذكارُ الكثير من المواقف الطّريفة في حياتنا وإيرادها في مقالةٍ واحدةٍ، ونتذكّرُ أصدقاءنا الذين عاشرناهم  والتقينا  بهم في درب الشّقاوة والغربة والدّراسة؛ ولا مانع من التّفاعل مع هذه المقالة واستذكار مواقف طريفةٍ، وأنا متأكّدٌ أنّ الكثير من أصدقائي سوف يتذكّرون حوادث مماثلةً ويبتسمون وهم يقرؤون ما أكتب .

في جعبتنا ذكرياتٌ كثيرةٌ، وأستذكر هنا  حادثة طريفةً عند قدوم بعض الطّلاب إذ كنّا نصطحبهم إلى مطعم جاناتا القريب من دار السّكن، ونتظاهر أنّنا نتكلّمُ مع النّادل باللّغة العربيّة، أي نقول له نريد فرّوجاً مشويّاً، ونذكرها بالإنكليزيّة ونضيف لها بعض الكلمات باللّغة العربيّة دون ترجمتها لأنّهم اعتادوا علينا، ويعرفون طلباتنا، ويهزُّ النّادل رأسه على الجانبين (يعني نعم في لغة الجسد عند الهنود) مؤكّداً فهمه للطلبيّة، والضّيفُ يحدّقُ في وجوهنا ويسألنا: "يعني بيفهموا عربي هون؟". لنجيبهُ: "طبعاً! لقد علّمناهم  وفيك تجي لحالك المرّة الجاية." ويشكو ويستنجد بأنّهُ ذهب للمطعم في اليوم التّالي ولم يفهموا عليه، بل جاؤوا له بطعامٍ حارٍّ أضرمَ النّار في بلعومه ليتركه ويضطرّ لاصطحابنا معه في المرّة القادمة، وهكذا كنّا ننجحُ بالمقالب الضّاحكة ...

كنت أواجهُ صعوبةً في التحدُّث مع المرضى الهنود باللّغة الإنكليزيّة وأضطرُّ للاستعانة بزملائي، ممّا يسبّبُ لهم الإحراج ويتضايقون لأنَّ الحديث قد يستغرقُ وقتاً طويلاً للكشف عن الحالة المرضيّة للمريض، لذلك عمدتُ إلى تعلُّم اللّغة الهنديّة ومحادثة المرضى بشكلٍ مباشرٍ، وكنت أجلس معهم لساعاتٍ طويلةٍ خلال فترة التّدريب وأثناء المناوبات الليليّة، وأدوّنُ الكلمات الجديدة وأتعلّم وهكذا حتّى استطعتُ أن أتعلّم لغة المحادثةِ، ومازلت نادماً لعدم قدرتي على الكتابة والقراءة باللّغة الهنديّة. في الحقيقةِ، ساعدني التحدّثُ مع المرضى كثيراً على استيعاب المرض وأعراضهِ والتّشخيص المبكّر وعلاج المريض، وهنا يكمن السرُّ في إيجاد العلاج، ويؤكّدُ الفشل الحاليّ في التّشخيص لعدم قضاء وقتٍ في الاستماع للمرضى وحالاتهم وعوارضهم. مايهمُّ هنا أنّني عندما كنتُ في السّنة الأولى في قسم الجراحة أعمل في مستشفىً حكوميٍّ مكتظٍّ بالمرضى الفقراء، وفي العيادة الخارجيّة، كنتُ أجلس إلى جانب رئيس قسم الجراحة الطّبيب ر.ك.سينغال وله الفضل في تعليمي العمليّات الجراحيّة، فقد كنت ساعده الأيمن في معظم العمليّات التي أجراها وأعطاني فيما بعد شهادةً بقدرتي على العمل الجراحيّ وضرورة منحي التخصّص في الجراحة، ومازلت احتفظ بها ، ولكنّني لم أستطع  تحصيل اختصاص جراحةٍ لأنّه طلب منّي أن أدفع رشوةً لتحصيل القبولِ، وهذا مارفضته ولم أكن أملك هذا المبلغ الضّخم للمسؤول الجشع ولنا حديثٌ عن ذلك في مناسباتٍ أخرى .

كان الجّراح سينغال يُصرُّ على جلوسي بالقرب منه في العيادة الخارجيّة، ويتابع تشخيصي ومعاينتي للمرضى والوصفات وأسأله كلّما احتجت لمساعدةٍ. كان طابورُ مرضايَ هو الأطول فقد كانوا من  المرضى الفقراء، ويعتقدون أنّني مستقدمٌ من المرّيخ، أشقر وعيناي زرقاوين وأعالجهم مجّاناً، بينما لرئيس القسم الطبيب المخضرم أقلّ من ربع الصفّ من المرضى، وكان يبتسمُ ويقولُ: "اجلس هنا، ولا يهمّك استفد من الخبرة بسبب كثرة الأمراض، فعليك ان تعود لبلدك طبيباً ناجحاً وتتفرّغَ للأبحاث وتطوير عملك وعلمك بالطبّ، وما تشاهده هنا من عشرات المرضى  لحالةٍ مماثلةٍ قد تصادفك حالةٌ او حالتان من أمثالها فقط  في بلدك أو في مكانٍ آخر في العالم."

كنتُ أنظرُ إلى صفّ المرضى،  وأحضّرُ له المريض للعمليّة، وأشخّصُ نسبةً كبيرةً من المرض من خلال النّظر إلى وجه المريض ومراقبة تنفّسه وأعراض المرض على وجهه وجسده  .

جاءني مريضٌ  يشكو من ضيق ٍ في التّنفّس ويضع يده على صدره  ويسعلُ بشدّةٍ، وكان هناك انتفاخٌ في بطنه، وهو في منتصف العمر ورائحة الكحول تفوح منه، فقد كان يعاني من تشمّعٍ في الكبد بسبب الكحول ويحتاجُ إلى  عمليّةٍّ جراحيّةٍ، ووصفتُ له الدّواء وطلبت منه أن يتناول شراب السّعال (المقشّع)، وقلت له باللّغة الهنديّة: "عليك أن تتناول هذا الشّراب ثلاثَ مرّاتٍ في اليوم." وهنا نظر إليّ المريض وقد نسي معاناته قائلاً: "أنت أوّل طبيبٍ يطلب منّي تناول الشّراب، فالجميع يقول لي توقّف عن المشروب." وهنا ضحك البروفسور سينغال ، يعني بما معناه كاد يتبوّل من شدّة الضحك ، وصرخ في وجهه مؤنّباً: "شربة سعلة وليس شراب... توقّف عن المشروب إذا أردتني ان أقوم بالعمليّة الجراحيّة لك." وكنت قد أخطاتُ  بالشّرح  بين معنى كلمة (شربة) و(المشروب) إذ اعتقدتُ أنّ كلمة (شراب) تعني (شربة) باللّغة الأورديّة الهندّية، وكان أستاذي الدكتور سينغال يذكرها لزملائه رؤساء الأقسام في كل مرّةٍ يراني بها. وذهبت مثلاً.

قاموس لغات الطّلاسم –عنكلش ، هنكلش ام شنكلش ؟

من شدّةِ صعوبة تعلّم اللّغة الإنكليزيّة والمصطلحات، فإنّك ستجد رفّاً كاملاً في مكتبتي للقواميس المتنوّعة: (عربي-انكليزي)، والعكس (انكليزي-عربي)، والمصطلحات السياسيّة والفنيّة والعلميّة و(القاموس الطبيّ الموحّد) وغيرها، وكنتُ أستعين بهاٌ، وقد وزّعت عدداً منها على الطّلبة الجدد قبل الانترنت وأقراص المعاجم، ولكن مهمّا توفّرت لديك المعاجم، فإنّك بحاجةٍ إلى قاموس اللّغات المتداولة وطريقة التّرجمة الحرفيّة لما يريده خبراء اللّغة من شرحه، والقصص لا تُحصى من المواقف الفكاهيّة والترجمات الحرفيّة التي كنّا نضحك عليها، كدعاباتٍ مثل: ظروفٍ قاهرةٍ (Cairo envelope) وفوق طاقتي (above my window ) جوزة الهند (wife of India) واطلع من هالبواب  (Get out of this door) ، وأنا بحاسبك (I will calculate you)،

 والجميع طبعاً يشارك بجملةٍ هو يقوم بترجمتها أو يكون قد سمعها من قبل، ولا يخلو زمن الكورونا من ترجماتٍ حرفيّةٍ مشابهةٍ...

يعني غلبنا غوغل في التّرجمة الحرفيّة المضحكة ونحن نتحدّثها، وكثيراً ما نضحك على التّرجمات الحرفيّة للإعلانات والرّسائل واللّافتات، خاصّةً عندما يعتمدون بذلك على ترجمة غوغل، والأمثلة عديدةٌ ومضحكةٌ ولا تحصى.

ومن الطّرائف  لترجمة غوغل الذاتية ،كانت كلمة فاميلي حسين أي عائلة حسين (Family Hussein) وكانت مع إحدى صديقات زوجتي ، زوجة صديقٍ حميمٍ لنا  نتبادل الزيارات باستمرارٍ وتحبّها زوجتي. حدثَ أن زارتها ذات يومٍ، وحاولت أن تشرح لها أنّ الهند رخيصةٌ، وقد اشترت بدل القميص عشرةً، لتسألها زوجتي: "ليش عشرة كثير حرام؟" وتقول لها: "هذا ل فاميلي حسين" ، أي أنّ عائلة زوجها كبيرةٌ وتشتري للجميع/ وذهبت مثلاً... تشتري جلد الحية من الجزادين والحقائب والأحذية أيضاً باعتبار أنّ جلد أفعى الكوبرا كان متوفّراً ومسموحٌ شراؤه في الهند، وحفظت اسم الأفعى جيّداً. وفي الحقيقة عندما نشتري لأهلنا هدايا، فالجميع عنده في سورية فاميلي حسين، ماشاء الله...

في إحدى المواقف الطّريفة كانت تلك السيدة تشكو من وجعٍ في معدتها ونفخةٍ، وحاولت أن تشرح لزوجتي مما تعاني كي تشرح لي وأكتب لها وصفة دواءٍ عندما أعود من المستشفى. ولم تعرف كيف تقولها باللّغة الإنكليزية، ولكي تقرّبها لزوجتي، قالت لها: "هل تعرفين الأفعى ؟ هنا" وهي تشير إلى بطنها، "سفي أفاعي صغيرة (ديدان معوية ) سمول سنيك (Small snake )" وعلمتُ أنّها بحاجةٍ لشربةٍ ضدّ الديدان المعوية ...

أعجبتني هذه الطّريقة في التّرجمة والجرأة  والثّقة الكبيرة في التحدّث باللّغة الإنكليزيّة لإيصال الفكرة، وجرّبتها مرّاتٍ عديدةً في المطاعم الهنديّة، كأن تطلب شوكة مثلاً فتقول لهُ: "هل تعرف الرّمح؟ أحضر لي مثله صغيراً للطّاولة"، وأن تقول نكّاشات أسنان (عود أسنان toothpick) بعد أكل الدسم ولا تعرفها  بالإنكليزيّة، تذكّر أن تقول: ( Small arrow ) أي سهمٌ صغيرٌ وأنت تشيرُ بإصبعك، وصدّقني سوف يحضر لك نكاشات أسنان .

هذا يذكرني بنكتةٍ  حدثت مع أحد نزلاء فندقٍ، وكان هناك فأرٌ في الغرفة واتّصل مع الاستقبال وقال له: "هل تعرف سلسلة أفلام كرتون  توم وجيري؟" قال: "نعم" ،  فقال له: جيري عندنا بالغرفة ...

نحتاجُ إلى جلساتٍ طويلةٍ وكتابة كتبٍ لهذه التّرجمات والمواقف المضحكة وسوف أضيفها في كركروناتٍ قادمةٍ على رأسي يعني أون ماي هيد (On my head)...

أمّا الآن فأنا منهمكٌ بمراجعة حصص الفرنسيّة والإسبانيّة لأزيد من قاموسي اللّغويّ في فترة هذا الحجر اللّعين، وأنا أستمع لأغنية فؤاد حجازي وهو ينشدُ: "يا بنيّة ماني فرنجي... ولا تحاكيني فرنجي... ماريد تقولي هواريو ولا تقولي أي لوف يو... قوليلي كيفك وشلونك شلون الحال"... بهمك تعرفي؟ والله يارفيقة دربي أنا تعبان وزهقان... والله أنا من شهر على هذه الحال..." وللقصّة تتمّة...  وقد تداخلت مراكز اللغات في ذهني إذ أجد القواميس تختلف فكلّ موقعٍ يروّج لنطقٍ مختلفٍ،  وبما أنّني جرّاحٌ تناولت مبضع الجراحة لأتحرّى الثّراء اللغويّ الكامن خلف الإعلانات ولكنّني وجدتني أتحرّى أصل فيروس كورونا وتركيبته في كلّ اللّغات علّنا نصل إلى نتيجةٍ ونخرجُ من قضبان هذا الحجر اللعين...

أمّا أنتم أصدقائي فالزموا منازلكم وتعلّموا لغاتٍ جديدةً أونلاين لتخرجوا من قوقعة الضّجر ... وسنوافيكم بكلّ جديدٍ...

                                         الدّكتور وائل عوّاد

                            الكاتب والصّحفي السّوريّ المقيم في الهند             

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.