تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا –العلاج بالغناء والموسيقا – 11 -

مصدر الصورة
خاص

النّصيحة العاشرة: العلاج بالغناء والموسيقا

أعتقد أنّنا جميعاً متّفقين بأنَّ الموسيقى والغناء هي من أفضل الطّرق العلاجيّة للكآبة والحزن والرّعب والخوف، وأؤكّد على النّقطة الأخيرة لأنّنا في كثيرٍ من الأحيانِ نلجأُ للغناء والدّندنة عندما نختلي بأنفسنا أو نعودُ من سهرةٍ ما أو ندخلُ غرفةً مظلمةً، ونذهب إلى المطبخ ونحنُ ندندنُ كي يخاف الحرامي أو المتسلّل، فيمنحنا ذلكَ مزيداً من الثقةً بالنّفس. وكثيرون منا اكتشفوا مواهبهم وقدرتهم الغنائية داخل  الحمام  وأنا واحدٌ منهم.

والجميلُ في الحجرِ المنزليّ أن يُرسلَ لك الأصدقاءُ باقةً من الأغاني القديمة تعيدُ لك ذكرياتٍ جميلةً كنتَ قد ارتبطتَ بها في فترةٍ زمنيّةٍ وتحملُ ذكرى تستحقُّ إعادة عجلة الزّمن للخلف واستذكار هذه الأيّامِ الجميلةِ. ومن الأغاني الظّريفة التي ظهرت من وحي الأزمة تلك التي تعتمدُ على تغيير كلمات أغنياتٍ لمطربينَ كبار لتتناسبَ والعصر الذهبيّ لفيروس كورونا، وتساعدُ التّقنيات بالتفنّن بها وتنزيل لقطاتٍ وصورَ ومواقف مضحكةٍ خلال الأغنية .

لقد عشقتُ الغناءَ والموسيقى منذُ نعومةِ أظفاري، إذ عوَّدنا المرحوم أبي على السّهر على صوت الرّبابة في المنزول ونحن نطربُ لصوت ملك الرّبابة الرّاحل - صادق حديد - وابنه محمّد رحمهما الله في سهراتٍ عامرةٍ في منزلنا بضيعة تلتوت، وما زلتُ أستمعُ لأغانيه وبحّة صوته الجميل ومواويله الخالدة برفقةِ عنين الرّبابةِ. وحملت معي إلى الهند أشرطة (كاسيت) لهما كنت أستمعُ إليها بين الحين والآخر كلّما زاد الحنين إلى الوطن ...

التحقتُ بالمركز الثّقافيّ في مدينة السّلميّةِ لأتعلّم الموسيقى، فقد أرسلتني  السيدة الفاضلة والدتي، أطال الله بعمرها، إلى قريبها مدير المركز - عبد الكريم الضحّاك، وكنت أرغبُ بتعلّم العزف على العودِ، ولكن لم يكن في المركز سوى الكمنجة والدّربكة وفضّلتُ الكمنجة. بيد أنّ ذلكَ لم يدُم طويلاً، ويعودُ السّببُ لغضبي من قريب الوالدةِ، فقد أراد منّي تقليد  المرحوم خالي محمّد - أبو ابراهيم - أمام الحضور ورفضت  ولم أُكمِل الدّورة التّعليميّة بعدها ...

الغناء الجماعيّ وبيت الطّالب السّوريّ

تعودُ بي الذّاكرةُ إلى أيّام الشقاوةِ والدّراسة في الهند، إذ كُنّا نقطعُ مئات الأميال بالقطاراتِ  لنتجمّع في العاصمة دلهي عند الصديق الودود د. نوري عجيل، ابن البادية الأصيل من البوكمال، في سكنه الجامعيّ بالقرب من جامعة دلهي حيث كان يدرسُ هناك. وقرّرنا أن نستأجرَ بيتاً بالقرب منه، يشرفُ عليه هو، فنجتمعُ به ونلتقي معاً كلّما سنحت لنا الفرصة. لم يكن عددُنا يتجاوزُ 15 طالباً في عموم الهند، واستأجرنا منزلاً في موكرجي ناغار، ودفعنا أجرته لمدّة ستّة أشهرٍ. وكنّا نجتمع في المنزل بعددٍ قليلٍ لبُعد المسافات، ولكنّنا كنّا نمثّلُ سورية بشرائحها الاجتماعيّة الفسيفسائيّةِ وكلُّ واحدٍ منّا ينحدرُ من منطقةٍ في الأراضي السّوريّة موزّعين من معظم المحافظات.

قرّرنا أن نشكّلَ فرعاً للاتّحاد الوطنيّ لطلبة سورية، وذهبنا كوفدٍ إلى السّفارة السوريّة، وتقدّمنا بطلبٍ، عن طريق وزارة الخارجية السورية، إلى الاتّحاد وجاءت الموافقةُ على فتح فرعٍ للاتّحاد في الهند والتكلّف بدفع نفقات بيت الطّالب السوريّ، وأصبح المقرُّ ملاذاً للطلّاب الجدد الذين يأتون للدّراسة فنقدّم لهم التّسهيلات بتحصيل القبولات واختيار الجامعات الجيّدة والسّفر معهم إلى الكليّات التي التحقوا بها .

كنّا نقضي أيّاماً جميلةً في بيت الطّالبِ، نطبخُ ونشربُ الشّاي ونلعبُ الورقَ (الشدّة) كالطّرنيب والتريكس، وفي المساء ننقسمُ إلى فريقين للغناء، الفريق الحلبيّ بقيادة د. عمار طلس – أبي هشام - وعلى كتفه ابن حرستا د.عمر الأطرش، وبجانبه من فريق المشجّعين  د.ناظم طلس، وأنا على أكتاف أبناء تلّ منين، أبي الوفى - د.سليمان جاموس - وأبي بشّار المهندس عبد اللّطيف الشّلبي وناظم الشّلبي الذي كان بطل الملاكمة في ولاية مهراشترا ود. نوري عجيل، ومن اللّاذقية د. طالب عمران، ومن إدلب المهندس محمّد ماجد كيّالي ود.ابراهيم فهدي، ومن حلب يقظان الرّفاعي، وابن تلكلخ قتيبة الّدندشي، وابن العريضة المرحوم وليد مشهور، ومن السّلميّة المهندس عاصم الجرعتلي وحيدر حيدر، ومن بانياس حبيب عبد الكريم، وغيرهم ممّن كانوا يتواجدون معنا، وتدور جوقة التّحدي  الغنائيّة والعتابا، وكلُّ فريقٍ يدعم مغنّيه، يعني باب حارة أصليّ على كيفكم، ولا نملك آلاتٍ موسيقيّةً سوى الطّناجر والصّحون والملاعق والشوك والكاسات ... ونقضي ساعاتٍ من الهرج والمرج نعود بعدها للحديثِ في المساءِ بالسّياسةِ. وفي إحدى الأمسياتِ كنّا نغني أغنيةَ (عدوية) المشهورة  التي كتب كلماتها الشّاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي  وغنّاها المطرب الرّاحل محمّد رشدي، وعندما وصلنا إلى مقطع : بإيدي المزامير وبقلبي المسامير والدنيا غرّبتني وأنا الشاب الأمير ...، بقينا نردّدُ هذا المقطع لساعاتٍ طوالٍ، وفي كلِّ مرّةٍ نحاولُ النّومَ، يدندنُ أحدنا بالمقطع، وبعدها نردّدهُ معاً وهكذا بقينا مستيقظين حتّى الصّباح ونمنا من تعبنا من شدّة الضحك والهرج. بعد ظهر اليوم التّالي جاء رجلٌ يشرفُ على معبدٍ للسّيخ برفقة زوجته، وكانا يسكنان بالقرب من المنزل، وهما من طائفة السّيخ، وقالوا لنا: "سمعناكم ترتّلون الصّلوات حتى الصّباح، ولا مانع لدينا من أن تؤدّوا طقوسكم الدينية في معبدنا القريب من هنا!  لقد تركنا انطباعاً جيّداً لدى الجيران أنّنا شلّةٌ خلوقةٌ  مسالمةٌ متديّنةٌ.وائل عواد

من الأغاني الجميلة التي كنّا نستمتع بسماعها ، إذ كنتُ أقود الفرقة بالغناءِ بينما الشّبابُ يردّدونَ ويصفّقونَ، ثمّةَ أغنيتان، الأولى كانت للعملاق الرّاحل وديع الصافي (على الله تعود) وبعد أن أفقعهم موّال (على الله تعود بهجتنا والفراح...)، نغنّي معاً ونكرّرها على كيفنا حسب المزاج العامّ السّائد، يعني نحن الجمهور، ونتفاعل مع بعضنا البعض مثل العساكر بالمهجع أو الطلّاب خلال رحلةٍ مدرسيّةٍ بالقرب من موقدٍ للنّار؛ والأغنية الثانية كنّا ننشدها بعد أن نربح دق الطرنيب ويتكفّل الفريق الخسران بالطّبخ وإعداد طاولة الطّعام، وكانت  للموسيقار الرّاحل ملحم بركات (عشرة احدا عش اطنعش ... دقّت السّاعة باللّيل وأنا وحدي...)، وبإمكانكم أن تتصّوروا وضع الشّباب ومعظمنا شَعره خنفوس وذقوننا طويلةٌ، ولا نرتدي قمصاناً من شدّة الحرارة، ونغنّي معاً، وأنا أقومُ بتقليد الحركاتِ، وندورُ في حلقةٍ وكلُّ واحدٍ يواجه الآخر في حالة الاستعداد للضّرب بالبوكسات ...

كنّا نعودُ بعد ذلك إلى أماكن دراستنا، نحملُ ذكرياتٍ، ونحفظ الأغاني للجولة الثّانية، وهذا جزءٌ من التّرفيه الذي قضينا فيه أيّاماً جميلةً في بيت الطّالب الذي انتقل فيما بعد إلى القرب من السّفارة السّوريّة في نيودلهي، ومن ثمّ أُغلقَ.

العودة للجذور

أردتُ أن أعودَ إلى أيّام زمان في هذا الحجر وأعمل بنصيحة الاستماع إلى الموسيقى والغناء، فجمعت العيلة في الغرفةِ على طاولة الطّعام وطلبت منهم أن يردّدوا ورائي  كلمة يويو فقط لأنّني أرغبُ بالتّرفيه عن نفسي وإسعاد افراد العائلة وتغير المزاج (الموود)، وبدأتُ بالغناء وأنا أدقُّ  بيدي على الطّاولة (الدّربكّة)  والاطفال يصفّقون ويضربون الملاعق والشّوك مردّدين  (يويو):

يا حاجّ محمّد   : يويو

لا شدّ واركب : يويو

على اسكندر :يويو

اسكندر مين : يو يو

أحمد شاهين : يويو

واللي عندو وزة : يويو

ينقر الرزّة :يويو

والرّز غالي : يويو

حقه مصاري :يويو إي والله يويويا، يوم..يا يوم...

وعلى سيرة الأرز والخبز تذكّرتُ البطاقة الذّكية وسكتت شهرزادُ عن الكلام ...

لم تدُم الوصلةُ الغنائيّةُ طويلاً وقرّرتُ العودةَ إلى الجذور، وأن أتدرّب على أغانٍ أجنبيّةٍ  كنّا نغنّيها أيّام الشّباب ونرقص على نغماتها في الديسكو. وباعتبار أنّ الجميع محجورٌ في البيت، وقد يتضايق الجيران من سماع أغاني عربيةٍ، وكي نقلّد ما شاهدناهُ من فيديوهاتٍ لإيطاليّين يغنّون على شرفات المنازل، أخذتُ الهاتف الجوّال إلى الحمّام ووضعت أغنية (سأبقى على قيد الحياة ) –نسخة كريوكي للمغنّية غلوريا غينور - وبدأت أتدرب على الأغنية  وأنا أتحمّم واقرأ كلمات الأغنية المكتوبة والتي تقول :

في البداية كنتُ خائفةً، كنتُ متحجّرةً،

بقيتُ أعتقدُ أنّني لا أستطيع العيشَ بدونك إلى جانبي،

ولكن بعد أن قضيتُ الكثيرَ من الليالي أفكّر كيف أخطأتُ بحقّ نفسي وكان ذلك خطأً

و أزداد نموّاً بقوّةٍ

وتعلّمتُ كيف أتأقلم

وهكذا عدتُ

من الفضاء الخارجي...

لقد دخلتُ لأجدك هنا بهذه النّظرة المحزنة على وجهك،

كان يجب أن أغيّر هذا القفل الغبيّ، كان يجب أن أجعلك تترك مفتاحك

إذا كنتُ أعرف لثانيةٍ واحدةٍ فقط ، أنّك ستعود لتزعجني

اذهب الآن، اذهب ، اخرج من الباب...

ومن شدّة الحماس في منتصف الأغنية عندما وصلتُ لمقطع (هاي هاي آي ويل سرفايف I will survive)... بدأتُ بهزّ خصري، وهنا  انزلقتُ في حوض الاستحمام (البانيو)، وطار الجوّال من يدي وسقطنا معاً على حافّة البانيو، وتمزّقت السّتارة التي حاولتُ التمسّكَ بها  ووقع السّيخ على رأسي، ولولا رحمة القادر  لتكسّرَ عمودي الفقري. لملمت ثيابي وخرجتُ من الحمّام مكسّراً، وكانت  هناك رضوضٌ وآلامٌ شديدةٌ في الضّلوع، ولكنّني تحمّلتُ الوجع ورفضتُ الذهابَ خشيةَ أن يظنّوا أنّني مصابٌ بفيروس كورونا (كريوكي ) ويحجروني لأربعة عشر يوماً بدون جهاز تنفّسٍ اصطناعيٍّ لندرته هنا ...

عدتُ إلى الفراش واستلقيتُ من الإرهاق ووضعت موسيقى هادئةً، وقررتُ أن أرتاح وأستمتع بالموسيقى ولاحاجة للحركات الصبيانيّة بعد اليوم ...

تذكّرتُ هنا ابن عمّي - صفوان - في ضيعة الشّيخ علي عندما زرته، وقد كان حزيناً في المزرعة، إذ بدأ بتربية الدّواجن، وسألته عن سبب حزنهِ، فشرح لي أنّه بدأ بتربية الصيصان وأخذ يضع لها موسيقى إذاعة مونت كارلو المشهورة بالموسيقى الكلاسيكيّة والأغاني الهادئة كلّ يومٍ ويراقب نموّها، وقال لي: "يعني شو خطر على بال المشرفين على الإذاعة  بأن يسمعونا أغنيتين متتاليتين لفهد بلّان، بناء على طلب الجمهور،  بصوته الأجشّ وموسيقاه الصّاخبة: (ركبنا عالحصان) و (واشرحلاهااااا هاا هااا) لترتعبَ الصّيصان وتجنّ  وتدعس على بعضها البعض، إذ مات حوالي 200 صوصٍ ..." حاولتُ آنذاكَ تخفيفَ مصيبته  وخسارته  .. وهنا بدأت أضحك بهيستريا لوحدي في السّرير.

كانت زوجتي تتّصل بابنتي الدكتورة  سحر في لندن، والتي تقدّمت بطلبٍ  للمشاركة طوعيّاً في البحث العلميّ مع فريق العمل في كليّة الصّيدلة في جامعة لندن للكشف عن لقاحٍ لفيروس كورونا، وتقول والدتها  لها: "أسرعي يا ابنتي  بكشف اللّقاح، رضاي عليكي، لم أعد أتحمّل  تصرّفات والدك، لقد مدّدوا الحجر في الهند لنهاية الشّهر الجاري، وإذا لم تسرعي بالكشف عن اللّقاح أنت وزملائك، يمكن لأحدنا ان يذهب إلى العصفورية –مستشفى المجانين ..." وهنا أخذتُ أغنّي في سريري أغنية الرّاحلة صباح (عالعصفوريّة... عالعصفوريّة ... وصّلني بايده عالعصفوريّة ... يا بيي...) لأسمع صراخ زوجتي في الهاتف: "اسمعي يا سحر، أبوكي جنّ، أسعفينا وأوجدي اللّقاح عسى أن يفكّوا الحجر..."

أخ شو بدي قلكم خلوني ساكت أحسن وخلّونا بالبيت ...

وللقصّة تتمّة ...

                                    الدّكتور وائل عوّاد           

                         الكاتب والصّحفي السوريّ المقيم في الهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.