تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الجائحة التي قد تفكك الاتحاد الأوروبي

مصدر الصورة
عن الانترنيت

د. غسان العزي

تنتشر التحليلات والتصريحات السياسية التي تتوقع تفكك الاتحاد الأوروبي إثر جائحة كورونا. ففي ملف نشرته «الفورين بوليسي» الأمريكية حول «عالم ما بعد كورونا» توقعت تفكك الاتحاد. وكتب نعوم تشومسكي عدداً من التوقعات في طليعتها أن هذا الاتحاد سيختفي ويصبح من الماضي. وحتى الرئيس ماكرون نفسه أعلن بأن كورونا فيروس يهدد الدعائم الأساسية للاتحاد الذي بات معرضاً لخطر حقيقي. هذا ليس سوى غيض من فيض التوقعات التي تنعى منذ اللحظة بناءً أوروبياً كان يعاني تشققات تنذر بانهياره بعد تعرضه لصدمات قوية اقتصادية وسياسية آخرها خروج بلد كبير منه هو بريطانيا وتهديد دول أخرى بأن تحذو حذوها.

لقد كشفت الدول الأوروبية الكبرى عن عجز فاضح في مواجهة أزمة يقول العلماء بأنها لم تكن عصية على التوقع بعدما عرف العالم موجات متتالية من الفيروسات القاتلة مثل إنفلونزا الخنازير والطيور وسارس وإيبولا وما شابه. إيطاليا تحولت بسرعة جنونية إلى بؤرة للوباء وكشفت عن ارتباك كبير في مواجهته وتبين أن نظامها الصحي، وهو من الأنظمة الحديثة المتقدمة يعاني قصوراً فاضحاً ونقصاً في المعدات والمستشفيات، إلى درجة أن الأطباء باتوا مضطرين لترك بعض المرضى أمام مصيرهم المحتوم في سبيل إنقاذ آخرين بسبب نقص في أجهزة التنفس. أخبار المآسي التي تأتي من إيطاليا تدمع لها العيون.

من الطبيعي والحال هذه أن يتوقع الإيطاليون أن يهب الاتحاد الأوروبي لنجدتهم لكنه لم يفعل. من هنا الأصوات التي ارتفعت، وما تزال، في إيطاليا وخارجها تتساءل عن الجدوى من وجود هذا الاتحاد الذي تخلى عن شعب مؤسس لأوروبا منذ المجموعة الاقتصادية في خمسينات القرن المنصرم.

الأنكى من ذلك، أن الصين البعيدة هي التي هبت لمساعدة إيطاليا بالأجهزة والمعدات وليس الجارات الأوروبيات. بالطبع فإن البادرة الصينية ليست إنسانية وحسب، بل تندرج أيضاً في حسابات جيوبوليتيكية مع إيطاليا التي كانت البلد الأوروبي الأول الذي يوقع على اتفاقية طريق الحرير العزيزة على قلب الرئيس الصيني.

خارج المأساة الإيطالية فقد تقوقعت الدول الأوروبية على نفسها وأغلقت حدودها فباتت اتفاقية شينجن مجرد حبر على ورق. وراحت كل دولة تواجه العدو المستجد بنفسها وعلى طريقتها من دون تنسيق جدّي مع الشركاء والجيران. فقد تبنى بوريس جونسون استراتيجية «مناعة القطيع» وبدت ألمانيا وكأنها تتبنى الاستراتيجية نفسها من دون الإفصاح عنها بدليل أن ميركل توقعت أن يُصاب ثمانون في المئة من الألمان بالفيروس، في حين تبنت فرنسا استراتيجية الحجر ولو بعد تردد تسبب لها بارتفاع عدد الإصابات.

كل ذلك وغيره الكثير يذهب في اتجاه نظرية تفكك الاتحاد الأوروبي أمام هجوم الجائحة بعد إحصاء المضار الكارثية التي تكون قد تسببت بها. ولكنّ للعملة وجهاً آخر.

في البداية لا بد من القول إن شعور الإيطاليين بأنهم وحدهم في المعركة ليس سببه غياب التضامن الأوروبي، هذا ما بات واضحاً اليوم لأن الدول الأخرى سرعان ما امتد إليها الفيروس لينتشر كالنار في الهشيم وتبدو ضعيفة هشة أمامه. حال إسبانيا لم يعد مختلفاً عن حال إيطاليا كما أن فرنسا وألمانيا وهما أهم دولتين أوروبيتين تكافحان كالغريق في اليم أمام اجتياح غير مرئي بات يحصد الأرواح بالمئات في كل يوم.

انضم جونسون إلى نظرائه الأوروبيين في «استراتيجية الحجر» واتفق الجميع على أنه مع بريكست ومن دونها يجب أن يتحدوا في وجه عدو مشترك لا يعرف الحدود، وبالتالي فإن الصراعات القديمة على الزعامات والمصالح التي سيطرت على الاتحاد الأوروبي ينبغي أن تتوقف فالمسألة مسألة حياة أو موت الجميع. فقد هزت الجائحة كل الإيديولوجيات وأعادت ترتيب الأولويات ودفعت الجميع للتفكير بأن الوقت للتنسيق والتضامن وليس للفرقة والتنافس.

على صعيد آخر، ترافقت بدايات الجائحة مع حرب كلامية أمريكية- صينية واتهامات متبادلة بالوقوف وراء «الفيروس الصيني» كما يصفه ترامب إلى درجة أن بعض المحللين توقع حرباً بين البلدين عما قريب تستكمل الحرب التجارية القائمة بينهما. لكن مع انتشار الكارثة ووصولها إلى الولايات المتحدة التي تبدو هي الأخرى عاجزة أمامها، عاد ترامب وأعلن بأنه يتعاون مع الصين بشكل وثيق، وبدوره استخدم الرئيس الصيني تعبير «الاتحاد» بين واشنطن وبكين في مواجهة الجائحة.

الدروس التي سيخرج بها الجميع على الأرجح أنه يجب على البشرية الاتفاق على مواجهة عدو مشترك لايفرق بين أحد، وبأن الوقت هو للتضافر والتضامن، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي سيتجه على الأرجح صوب المزيد من التنسيق والتوحد، ولكن مع تغيير كبير في الأولويات والأهداف.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.