تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التراجع الأمريكي في سورية والنظام متعدد الأقطاب..

مصدر الصورة
عن الانترنت

بديـع عفيـف

لم يعد سراً أو تنجيماً الحديث عن أفول أحادية القطبية الأمريكية والنظام العالمي الذي ساد في العقد الأخير من تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، وكانت فيه الولايات المتحدة شرطي العالم السمج والمتسلط.

الكل بات يدرك ويتحضر للنظام العالمي القادم، الذي أكد ثعلب الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف أكثر من مرّة، أنه سيكون نظاماً متعدد الأقطاب يعكس الواقع الدولي الفعلي والعلاقات الدولية الجديدة، وأنّ الغرب يقاوم ظهور هذا النظام في محاولة منه للحفاظ على هيمنته ومصالحه.

لكنّ الهيمنة الغربية تراجعت باعتراف الغرب نفسه، بسبب عوامل ذاتية داخلية وأخرى خارجية؛ منها, تراجع مستوى الحياة الغربية وتآكل المنظومات القائمة وعدم قدرة الأنظمة الغربية الحاكمة على مواجهة التحديات الجديدة التي أفرزتها التطورات الاقتصادية والسياسية والثورة التكنولوجية والرقمية والعلمية؛ الأنظمة الغربية القائمة صممت منذ عقود لمواجهة مشاكل وتحديات مختلفة كلياً عن تحديات العصر الحالي. وهذه التحديات والمشاكل الداخلية تقترن بالتحديات الخارجية التي أصبحت تشكّلها الدول الصاعدة على المسرح الدولي بسبب زيادة قدرة وإمكانيات هذه الدول الإقتصادية والعلمية، وانتهاء المرحلة التي كانت فيها العلوم والتكنولوجيا الحديثة حكراً على الغرب؛ الحرب الأمريكية على الصين، مثلاً، هي حرب أحد أهدافها منع/أو تأخير امتلاك الصين للتكنولوجيا الحديثة.

تراجعُ الهيمنة الغربية يظهر في أكثر من مكان ومجال؛ أوروبا القارة العجوز، أصبحت تقريباً بلا دور ولا فاعلية في السياسة الدولية؛ موقف ألمانيا المتأخر جداً والمرتبك والرد الروسي عليه، من إقامة "المنطقة الآمنة" في شمال سورية، يُعتبرُ نموذجاً للغياب الأوروبي وتراجع الفاعلية الأوروبية؛ "البريكست" البريطاني نموذج آخر "للتشظي fragmentation" الأوروبي والإنحلال والتراجع في الدور ألأوروبي، وكأن الإتحاد الأوروبي بات عبئاً على بعض الأعضاء فيه، ولم يعد حلماً لقادمين جدد..؟!

ملامحُ وأشكال التراجع الغربي تتجلى أيضاً في التناقضات بين مصالح دوله ولاسيما بين أعضاء حلف "الناتو"؛ الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة؛ بين فرنسا وإيطاليا، بين تركيا وألمانيا، بين دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ شتائم ونزاعات وعقوبات وآمال ومصالح متناقضة واتجاهات متعارضة ومتضادة، وحيث النزعات الوطنية عادت لتطغى على الشعور القومي العابر للحدود.

هذا التراجع الغربي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص لوحظت دلالاته مؤخراً عندما بدأت القوات الأمريكية تنسحب من شمال سورية؛ ردّة الفعل ظهرت واضحة عند تابعي الولايات المتحدة وخصومها على السواء: لقد أصيب تابعو الولايات المتحدة ـ الكيان الإسرائيلي والنظام السعودي مثلاً ـ أصيبوا بالخيبة والذهول؛ شعروا أنّ الولايات المتحدة لم تنسحب فقط، بل خسرت المعركة وفقدت تأثيرها وفرضت عليهم مواجهة خسارتها وحدهم؛ خوفٌ حقيقي يجتاح الكيان الإسرائيلي بسبب التطورات في الشرق الأوسط وتحديداً في سورية؛ القلق الإسرائيلي من التطورات مؤشر مهم لتراجع الدور الغربي وبالأخص الأمريكي منه؛ ما انكسر هو "الثقة" التي كان هؤلاء التوابع يحملونها و"الحماية" المعنوية التي كان يؤمنها لهم الحضور والدور الأمريكي.

في المقابل، فإن خصوم الولايات المتحدة وأتباعها ازدادوا ثقة بأنفسهم وبقدراتهم وهم يدركون بالطبع أن الحرب مع الاستعمار الأمريكي وكيان الاحتلال لم تنته، ولكن سقط الردع الذي كانت تجسده الولايات المتحدة وسور الحماية الذي كانت تشكله لحلفائها في المنطقة؛ لقد تآكلت هيبة الردع الأمريكية وتلاشت، ولاسيما بعد إسقاط إيران لطائرة أمريكية مسيّرة تعتبر فخر الصناعات العسكرية الأمريكية الحديثة، وبعد الهجوم على منشآت شركة "أرامكو" السعودية للنفط وفشل الرادارات وأنظمة الصواريخ الأمريكية في اكتشاف الهجوم وصده أو حتى معرفة فاعليه.

 الولايات المتحدة تكاد تقف عاجزة عن فعل أي شيء؛ الرئيس دونالد ترامب الذي يكشف وجه أمريكا الاستعماري الحقيقي: أمريكا بلا رتوش، رجل الصفقات يدرك حجم وحدود القوة الأمريكية، ويحاول التزام أمريكا أولاً؛ فكيف حال كيان العدو الإسرائيلي..؟

في المقابل، فإن مجموعة الدول القائدة للنظام العالمي الجديد تظهر أكثر قوة وثقة بالنفس؛ تحدد اتجاهاتها والخطوات العريضة للمستقبل وكيفية الوصول وتحقيق طموحاتها؛ إيران تمثل رأس جبل الجليد من هذه المجموعة؛ تواجه العقوبات الغربية الأمريكية ولكنها لا تتوقف عن البناء والعمل على تجاوز هذه العقوبات وتخطيها، وهي أصبحت تحقق نجاحات لافتة في ذلك؛ روسيا والصين تتقدمان وتنتشران في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وإفريقيا؛ مشروع "حزام واحد طريق واحد" الصيني يخترق القارات الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا ويحاول تشبيكها معاً بالمصالح الصينية، والإقتصاد أولاً. أما الإنتشار الروسي فلا يقلّ أهمية واتساعاً، والقمة الإفريقية الأخيرة التي أقيمت في سوتشي الروسية، وصفقات السلاح التي تجاوزت /13/ مليار دولار، خير مثال على التوسع الروسي إلى أماكن لم يصلها الروس من قبل، فيما تغادر الولايات المتحدة وتنسحب من هذه الأماكن تجرّ أذيال الخيبة.

النظام العالمي الجديد أطلّ بداية في التعاون الروسي الصيني في مجلس الأمن الدولي لمواجهة التكتل الغربي الذي كانت تقوده الولايات المتحدة ضد سورية؛ هذا التعاون الثنائي أفشل معظم المخططات الغربية في سورية؛ عسكرياً أعلنت موسكو عن إنتاج وامتلاك أسلحة يحتاج الغرب أكثر من عشر سنوات لإنجاز ما يماثلها؛ اقتصادياً أدركت الولايات المتحدة الخطر الذي يمثله الإقتصاد الصيني فأعلنت الحرب التجارية على الصين، لكن الردود الأمريكية أعجز من أن توقف التحولات العالمية المتسارعة؛ الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن، تحدِّ غير مسبوق للغرب؛ التخلي عن التعامل بالدولار الأمريكي، تحدٍّ آخر أكثر خطورة وتأثيراً على إمكانية استمرار "قيادة" الولايات المتحدة للعالم؛ قيام روسيا والصين بتكديس الذهب والتخلي عن السندات ألأمريكية مؤشر آخر لما هو قادم.

بالطبع لم يستسلم الغرب، والولايات المتحدة بشكل خاص، ولكن النظرية الروسية في العلاقات الدولية القائمة على التعاون والإحترام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بدأت تفرض نفسها في مواجهة النظرية الأمريكية القائمة على الهيمنة والاستغلال.

وبالطبع كانت الحرب على سورية والتدخل الروسي في هذه الحرب في العام 2015 لدعم الدولة السورية، اللحظة الفاصلة في بدء التحوّل العملي نحو النظام الدولي متعدد الأقطاب، ولذلك رأينا وما زلنا نتابع المحاولات الغربية لمنع انتهاء هذه الحرب وبالتالي عرقلة نشوء النظام الجديد الذي تقوده روسيا ـ بوتين.

 ولذلك فإن مؤشرات الحل في سورية وشكل هذا الحل ومضمونه مهمة جداً ليس لمستقبل سورية وحدها فحسب، بل ولمستقبل المنطقة والعالم، لأن ما يجري في سورية وما ستؤول إليه الأوضاع يعكس التحولات الدولية الحاصلة ومستقبل هذه التحولات

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.