تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مؤتمر "الشعوب السورية" بين الواقع والقانون..!!

مصدر الصورة
محطة أخبار سورية

تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أحد المؤتمرات الصحفية عن سعي موسكو لعقد مؤتمر للشعوب السورية لحل الأزمة في سورية. وقد كان وسبق أن ورد هذا المصطلح من قبل، في بيان منصة "حميميم" بمناسبة انعقاد مؤتمر "جنيف" الثاني الخاص بالأزمة السورية، واعتبره بعض المشاركين في الاجتماع حينها خطأ في الترجمة عن الروسية أو خطأ طباعياً في البيان لا يستدعي الوقوف عنده أو التفكير فيه. ولكن إعادة ذكره على لسان الرئيس الروسي تستدعي منا الوقوف ملياً على المقصود منه ودلالته القانونية والسياسية على مستقبل سورية؟

إن كلمة "الشعب" تنصرف إلى سكان الدولة؛ أي المجموعة البشرية التي تعيش في ظل سلطة معينة؛ فإذا وجدت في مجموعة بشرية ـ بالإضافة إلى هذه الرابطة السياسية أو بدونها ـ روابط أخرى طبيعية وليدة الحياة المشتركة، تكوَن لدينا مفهوم "الأمة"؛ من جملة هذه الروابط وحدة العرق والتقاليد التاريخية والأعراف واللغة والدين والوطن وما يفترضه ذلك كله من روابط اقتصادية وثيقة، قد تتوافر كلها أو بعضها. ولكن هل يمكن تعريف الدولة السورية بأنها التنظيم القانوني للأمة السورية أو العربية أو الكردية أو الأشورية أو غيرها من الأعراق والإثنيات التي يتكون منها الشعب السوري في الوقت الحالي؟

بعبارة أخرى هل تعتبر الأمة ركناً من أركان الدولة بحيث لا دولة حيث لا أمة، وهو ما كان يذهب إليه الفقه الفرنسي منذ عهد الثورة الفرنسية، وما يقوله الفقيه الإيطالي "مانشيتي" وتسايره فيه المدرسة الايطالية؛ فالدولة عند هؤلاء هي التعبير السياسي والأمة هي التعبير الاجتماعي. هذه النظرية تصحّ حيث تؤلف الأمة الواحدة دولة واحدة، ولكنها لا تنطبق على واقع المجتمع الدولي. كما أنها تخلط بين الدولة والأمة التي توجد في الواقع من الناحية الاجتماعية قبل الدولة بصرف النظر عن تشخيصها في شكل قانوني هو الدولة. فلا تلازم من الناحيتين القانونية والواقعية بين الدولة والأمة: إذ يمكن أن تقوم الدولة على الرابطة القانونية، وحدها ويمكن أن توجد ولو انتفت الروابط الاجتماعية الأخرى؛ فالاتحاد الروسي يضم أمماً عديدة والأمة العربية تضم دولاً عديدة. والحقيقة أن وجود عدة قوميات داخل الدولة الواحدة دفع بالعرف الدستوري إلى ابتداع شكل خاص لممارسة السلطة يكون أقدر على ضم جماعات تختلف ديناً أو ثقافة أو عرقاً في إطار تضامن واسع. وهذا هو منشأ بعض أشكال الدولة حيث تتكيف مرونة اللامركزية أو النظام الاتحادي مع اختلاف القوميات وتعددها.

وقد سبق أن نشر "ستالين" مقالاً مسهباً عن المسألة القومية سمي فيما بعد "بالماركسية والمسألة الوطنية" عرَف فيه الأمة بأنها:

"جماعة ثابتة من الناس تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك يجد له تعبيراً في الثقافة المشتركة"؛ وهو يقصد بالجماعة الثابتة جماعة تتصف بالاستقرار والدوام؛ أي أن الأمة ليست جماعة مؤقتة طارئة سريعة الزوال وأنها تكونت تاريخياً؛ فلها بدايتها ونهايتها في التاريخ؛ وليست اجتماعاً قائماً على رابطة الدم كالعائلة والعرق والجنس، بل هي تقوم على أساس تمازج أجناس وأقوام مختلفة في عهد تاريخي معين. أما رابطة اللغة ورابطة الأرض فتتكونان وتتثبتان في عهد قديم نسبياً؛ وأما الاقتصاد المشترك فلا يتحقق إلا في عهد نشوء الرأسمالية وانتصارها على التفكك الاقطاعي. ولذلك يقول ستالين: "إن الأمة مقولة تاريخية لعهد الرأسمالية الصاعدة". ولئن كان تعريف ستالين صحيحاً جزئياً فيما يتعلق بالأمم الأوروبية، فإنه يفقد قيمته عندما نطبقه على الأمم الآسيوية والإفريقية ولا أدل على ذلك من المثال التالي: أمة واضحة المعالم تعيش في دولة مستقلة موحدة ـ مثل سورية والعراق مثلاً ـ فيأتي الاستعمار ويقضي على استقلالها وعلى وحدتها ويجزؤها سياسياً واقتصادياً، فيزول الاقتصاد المشترك؛ فهل تكف الأمة عن كونها أمة أو دولة واحدة موحدة؟

إن الواقع يكذب هذه النظرية. فألمانيا قبل الوحدة كانت دولتين ويختلف النظام الاقتصادي والسياسي فيهما عن البعض الآخر كلياً، ومع ذلك لم يقل أحد بزوال الأمة أو الدولة الألمانية بدليل إعادة توحدها. وأيضاً وجود دول في العالم تضم جزء من الشعوب بالمعنى القومي، وهناك دول تضم أكثر من شعب بالمعنى نفسه كالاتحاد السوفيتي سابقاً.. والروسي حالياً. فسواء وجدت الرابطة القومية أم لم توجد فسائر أفراد الشعب في الدولة يرتبطون برابطة سياسية وقانونية من شأنها خلق التزامات متقابلة بين الفرد والدولة، هي رابطة الجنسية؛ فالجنسية هي المعيار للتفريق بين الوطني والأجنبي؛ فمن كان طرفاً فيها اعتبر وطنياً له ما للوطنيين من حقوق وما عليهم من واجبات، ومن تجرّد منها عرف بالأجنبي وخضع في علاقته بالدولة التي يوجد فيها لما يطبق على الأجانب من حيث مراكزهم القانونية.

وفي ضوء كلّ ذلك، نتساءل عن قصد الإدارة الروسية من وراء تعبير "الشعوب السورية"؛ هل هو إشارة إلى فكرة "الحكم الذاتي"، كأساس لحل مسألة القوميات وعدم التكامل في داخل الدولة متعددة القوميات أو ذات الجماعات العرقية المختلفة كنوع من التهدئة لبعض هذه الجماعات التي أشعلت فتيل الأزمة في سورية لسنوات طويلة؟! إنّ هذا التوجه في ـ رأينا إن وجد ـ غير صحيح، ويخالف منطق التاريخ والواقع، ويخيب الآمال لأن الارتباط أصبح وثيقاً بين أغلب تطبيقات "الحكم الذاتي" وبين العنف عند حده الأقصى باستخدام القوة المسلحة ونشوب الحرب الأهلية.. وهو ما يحدث الآن في العراق وإسبانيا والسودان والفلبين؛ فالحكم الذاتي في نطاق القانون الداخلي ليس ذو أهمية لأن الحل الذي يحدثه لمسألة القوميات ومشكلة التعدد العرقي ليس دائماً وحاسماً، وهو في مجال القانون الدولي كذلك لم يحقق الغاية المرجوة منه، لأنه لم يتجرد من الشوائب التي علقت به منذ بروزه كفكرة استعمارية. ولهذا لم يجد تطبيقاً مؤيداً ومقبولاً من قبل شعوب الأقاليم المستعمرة، بدليل تعثر تطبيقه في العديد من الدول وآخرها العراق وإسبانيا. فـ"الحكم الذاتي" في القانون الدولي لا يخرج عن كونه مرحلة سابقة للاستقلال الوطني وتمهيداً لحق تقرير مصير الشعوب ومن ثم إعلان الانفصال، كما حدث مع إقليمي "أربيل" و "كتالونيا"، وإن تطبيق الحكم الذاتي في الاتحاد الروسي يختلف عن تطبيقاته في كل من العراق والسودان وإسبانيا، وذلك بسبب اختلاف المذاهب السياسية وفلسفتها في هذه الدول واختلاف ظروفها الاجتماعية والاقتصادية.

ولو كانت نظرية "الحكم الذاتي" صالحة لتوحيد الشعوب والأقاليم واستقرارها، لما هجرها الفقه الفرنسي عند قيام الملكية والانتفاضة على نظام الإقطاع، وارتداد مفهوم "الحكم الذاتي" إلى الوراء في ظل الدولة الموحدة، حيث أصبح في فرنسا أساساً لقيام مبدأ (سلطة المدينة)؛ أي أنها سلطة ملازمة لكل تجمع تاريخي احتفظ لنفسه بجزء من السلطة، وتنازل برغبته للدولة عن الجزء الآخر. وعندما جاءت الثورة الفرنسية أجهضت مفهوم "الحكم الذاتي" واستخدمت مفهوم "اللامركزية" الإدارية. لكن التاريخ الفعلي لاستخدام هذا المصطلح في السياسة الدولية وتوزيع الغنائم يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى واهتمام الدول المنتصرة بمصير الأقاليم والشعوب التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، وإنشاء نظام الانتداب من قبل "عصبة الأمم" باعتبارها أفضل فكرة لحل المسألة الاستعمارية.. وكان الجنرال ستمس هو من وضع نظام الانتداب ونشره تحت عنوان (اقتراح عملي) وتم ادراج المقترح في المسودة الأمريكية لمشروع اتفاقية "عصبة الأمم" حيث يقوم نظام الانتداب أساساً على مفهوم "الحكم الذاتي".

وبالمجمل، نجد أنّ مصطلح "الشعوب السورية" أو غيرها من الصيغ المقترحة للحل كـ"الحكم الذاتي" أو "الإدارة الذاتية"، لا تمثل نظاماً قانونياً صالحاً كأساس في حل المسألة القومية ومشكلة الجماعات المتباينة في الدولة الواحدة، لما فيه من عدم مساواة واضح وفعلي بين الحقوق والالتزامات المتعلقة بعنصر السلطة السياسية في الدولة لتلك الجماعات. ويبقى الحل في تعميم مبادئ المشاركة و"التسيير الذاتي" و"ديمقراطية الحكم" تحقيقاً لحق الأفراد في التمتع بها، وهو ما دعت إليه القيادة السياسية في سورية منذ اللحظات الأولى للأزمة، لاسيما وأن الواقع يكشف عن توجهات انفصالية لبعض القوميات والجماعات التي لم يعد يقنعها "نظام الإدارة اللامركزية" يحقق مبدأ التشاركية والمساواة في الإدارة والحكم، فكيف إذن وأنّ هذا الـ"نظام الإدارة اللامركزية" لا ينسجم مع مصالح ومخططات الدول الاستعمارية الداعمة لها، والتي تسعى عبر دعم تلك الجماعات الانفصالية إلى إضفاء شرعية ما على وجودها وإجراءاتها المخالفة للقانون الداخلي والدولي، والبعيدة كل البعد عن تحقيق الاستقرار السياسي والقضاء على مشكلة "عدم التكامل" المزعومة في سورية؛ فالأزمة في سورية لم تكن يوماً تنازعاً بين شعوب وجماعات والحديث عن خلاف وتنازع اثني أو قومي في سورية بعيد عن الواقع والحقيقة. 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.