تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الأخــلاق.. والجريمـة الاقتصاديـة..!!


1/3/2015

 

هل تعتبر الجريمة الاقتصادية جريمة مادية لا تتطلب وجود الخطأ في قيامها وبالتالي لا تتعارض مع الأخلاق ولا تصطدم بالشعور العام، أم هي عكس ذلك؟

من الصعب إطلاق حكم عام على جميع الجرائم الاقتصادية, إذ من المعروف أن قانون العقوبات الاقتصادي غير متجانس ومتناقض, خاصة في الدول الرأسمالية حيث يتراوح بين المستلهمات الحرة والمتطلبات التوجيهية, لذلك فإن التعرض لكل جريمة اقتصادية على حدة أمر غير مرجو ـ فضلاً عن أنه غير مستطاع ـ لأنه سيجعل النتيجة حينئذ غاية في التفتيت وسيساعد على إظلام المشكلة بدلاً من إيضاحها.

من أجل هذا, فقد اخترنا بحث جرائم الأسعار وجرائم الصرف، كنموذج للجريمة الاقتصادية بوصفهما أهم الجرائم وأكثرها شيوعاً في الوقت الراهن نتيجة الأزمة التي تشهدها سورية.

فجريمة الأسعار قديمة قدم العالم, لأن استقرار الأسعار أمر مرغوب فيه في المبادلات التجارية، والتسعير هو في الواقع ضمان شرعي ضد تقلبات الأثمان، واستقراره يقلل أيضاً إلى الحدود الدنيا روح المضاربة، كما يشجع على الادخار والاقتصاد.  ولقد عبّر قديماً الفقيهplaton   عن أمنيته في تنظيم الأسعار، فكتب قائلاً: "يجب على حماة القوانين بعد اجتماعهم بالأشخاص المختصين أن يفحصوا الموارد والتكاليف التي ينتج منها التاجر ربحاً معقولاً وعليهم أن يحددوا كتابة ما يمكن للتاجر أن يطلبه بسبب النفقات".

 ولقد نادى المفكرون بفكرة التسعير القانوني ووجدوا أنه من الطبيعي جداً ومن حسن العدالة أن تصدر الأسعار عن القانون، وقال GERSON: "في الدولة يجب ألا نفترض وجود من هو أحكم من المشرع"، ثم أضاف: "إنه أذن المشرع الذي  يجب أن يناط به تنظيم كل شيء إذا أمكن, كالسعر العادل الذي يجب على الأفراد ألا يتجاوزوه على الرغم من نزواتهم وشهواتهم, إنه يجب تنظيم  أسعار جميع السلع كأسعار الخبز والنبيذ, كما يمكننا أن نتفادى بذلك المشاحنات ليس فقط غير المفيدة، بل العقبة التي تثور كل يوم بين البائعين والمشترين, إن الإجراء صعب التطبيق حقاً ولكن كم له من آثار مفيدة".

 ولعله من المهم أن نشير هنا إلى أن مشكلة الثمن العادل تمثل إحدى تطبيقات العدالة في العلاقات الاقتصادية. وقد لاحظ عالم الأخلاقMolina  أن قانون التسعير يثبت ويحدد القيمة الموضوعية للشيء المسعر, ولكنه لا يخلق هذه القيمة،  فهو يقول: "إن كل علماء الأخلاق يلاحظون ذلك ويتفقون عليه, فلكي يلزم قانون التسعير ضمير الإنسان وإحساسه، من الضروري أن يكون متوافقاً مع العقل والمساواة، ولا يبتعد عن  الثمن العادل, إنه يتعين على الأمير أن يتغلب على البخل لدى الأفراد وأن يعدل أسعار الأشياء في حدود الإنصاف الذي تتطلبه المصلحة العامة".  وكما نذكر قول فقيه آخر: "إن السوق السوداء سواء في البضائع أو أوراق النقد نكبة وطنية، فكل زبائنها مشترين وبائعين يخالفون العدالة القانونية بأعمالهم غير المشروعة, إن أرباحهم تشكل  سرقة، إن من يشتري المنتجات من الفلاحين بسعر يزيد عن السعر المحدد لإعادة بيعها بأسعار أعلى إنما هو عدو عام يستحق المحاكمة العسكرية". ثم أننا نجد البابا بيوس الثاني عشر يردد علناً إدانته لما يجري في مثل هذه السوق في رسالة له عن رأي الكنسية الكاثوليكية في سنة 1947 فيقول: "إن الاضطراب الاقتصادي والمالي يثير التعطش للربح الذي يدفع النفوس إلى مضاربات دنيئة وأعمال ضارة بالشعب كله، ولطالما أدنا ووبخنا مثل هذه الألاعيب, تماماً كالتجارة غير المشروعة وكل خروج على القوانين العادلة الصادرة عن الدولة من أجل مصلحة المجتمع المدني".

وليس من شك في أنه يحدث تستر من الجمهور عن بعض جرائم الأسعار ولكن هذا التستر راجع إلى استسلام الجمهور للاستغلال المذموم الذي يقعون فريسة له، الأمر الذي قاد بعض التشريعات إلى توقيع عقوبة الحبس على المستهلك الذي يقبل أن يدفع سعراً أعلى من السعر المحدد سواء بصفته شريكاً للبائع أو بصفته فاعلاً في جريمة خاصة. إن جرائم الأسعار تمس العدالة الاجتماعية التي تستلهم المصلحة العامة، كما تمس عدالة التوازن في تحمل الالتزامات والتكاليف.

وبعد هذا العرض، ألا يصح القول إن احساس الإنسان وضميره يدينان عدم احترام السعر الذي تحدده الإدارة؟ أليس الإنسان قاضياً سيئاً بصفة عامة في شؤونه الشخصية، خاصة إذا تعلق الأمر بمصالح متداخلة؟ من هنا فإن التاجر الجشع سوف يحاول دائماً أن يجد الأعذار لأعماله السيئة, بل قد يرى فيها مبررات أكثر منها أعذاراً. إن العاطفة هي غالباً مستشار سيء؛ إن التاجر قد يرى عن بعد وبوضوح، شرط ألا يوضع أمام نفسه.

أما بالنسبة لجرائم الصرف، فإن الفكرة في الرقابة على النقد، هي الأخرى قديمة جداً ترجع إلى أفكار التجار في القرن السادس عشر، وقد كانت تقوم على أن ثراء الدول يتوقف على كميات الذهب والفضة الموجودة لديها، الأمر الذي يوجب تشجيع دخولها إلى البلاد عن طريق رفع سعر فائدة إيداعها أو قبولها بأكبر من قيمتها. كما يجب وضع القيود التي تمنع خروج الذهب والفضة من البلاد عن طريق التدخل في العقود التي تبرم بين الوطنيين والأجانب بحيث يلتزم المصدرون بأن يأخذوا مقابل تجارتهم ذهباً وفضة ويلتزم الموردون بأن يأخذوا مقابل بضائعهم منتجات قومية. ولما لم تثمر هذه الوسائل عن النتيجة المرجوة من عدم خروج الذهب من البلاد، اتجهت الأفكار إلى تشجيع الصادرات ووضع القيود على دخول الواردات على أن يُدفع الفرق لصالح الدولة بالذهب والفضة.

 ولقد أصبح من المعلوم الآن أن الإجراءات الخاصة بالرقابة على النقد أخذت بها  كل الدول تقريباً بحيث أصبحت الدول التي تسمح بتصدير عملاتها تكّون استثناءاً حقيقياً، ولم يعد النمو الاجتماعي يغفل عن استنكار من يفلت من رقابة رجال الجمارك وينقل لدولة أخرى حقيبة مملوءة بأوراق النقد أو القيم المالية لاستبدلها بنقد أجنبي في بنك يحمي هذا النوع من الغش ضد الوطن، ولا فعل التاجر الذي يتظاهر بالخسارة في بضائع سبق له أن صدرها للخارج وذلك لكي لا يكون عليه أن يعلن في وطنه ما دفع له من نقد أجنبي في مقابلها، والذي كان من الواجب أن يستفيد منها كل مجتمع وطنه.

ألم يسلم أنصار نظرية مادية الجريمة الاقتصادية بأن كل مخالفة لقانون شرعي عمل مخالف للأخلاق, وأن مناط شرعية القوانين الاقتصادية الجنائية هو سلامة النظم التي يراد حمايتها واتفاقها مع المصلحة الاجتماعية, وأن الارتباط وثيق بين سلامة النظم في ذاتها ومبلغ احترام الناس لها وتعلقهم بها؟! فإذا صح أن هذه القوانين محل احترام الناس بسبب شرعيتها، فكيف  يتصور ألا تكون مخالفتها ـ في صورة الجريمة الاقتصاديةـ محلاً لاستهجانهم أو أنهم ينظرون إلى هذه المخالفة على أنها عمل لا يتعارض مع أخلاقهم.

إن المسائل الاقتصادية والمسائل القانونية تنطوي كلها في الحقيقة تحت قاعدة السلوك التي تُفرض على الفرد وكلها مسائل من الأخلاق، إذا قصدنا بالأخلاق قاعدة سلوك إنسانية، حقاً قاعدة سلوك بدون أنانية, قاعدة سلوك تأمر بحب الآخرين وتعلِّم الناس أن يلتفتوا عن غاياتهم الشخصية ليتجهوا إلى الصالح العام.

من هنا نجد أن قانون العقوبات الاقتصادي ينطوي على فكرتي العدالة الفردية والعدالة الاجتماعية معاً, فهو يخصص بعض نصوصه لضمان بعض الأخلاقيات في التجارة والعمل، فنجد تعبير "ضرورة حماية المستهلك" وهذا يعني ضمان المساعدة الجنائية للأفراد في علاقاتهم الفردية مع التجار وكذلك النصوص التي تعاقب الغش في بيع البضائع أو تنفيذ الأعمال.

لذلك يمكن القول بأن الجريمة الاقتصادية وفي هذه الظروف تحديداً جريمة أخلاقية بالدرجة الأولى، حيث لا يوجد فارق بين الجريمة الجنائية العادية والجريمة الاقتصادية, فالنص العقابي يولد من متطلبات اجتماعية واقتصادية وضريبية وفنية ودولية، ولكنه أيضاً له ضرورات أخلاقية؛ فهو يعكس روح العصر وروح المجتمع وأخلاقياته الخاصة وقيمه وأفكاره، ومن هذه الأخلاقيات فكرة العدالة الاجتماعية التي تعني حماية الإنسان الفرد ضد مجرد الكسب المادي وهذه الأفكار التي يعيها تماماً أصحاب رؤوس الأموال والتجار!!

 

القانونية: أمل عبد الهادي مسعود     

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.